عبد الله المنصور
16/07/2008, 11:29 PM
هكذا يقول جذيمةُ الوضَّاحِ قَتيلُ الزبَّاء ، وسيِّدُ قومه المُملَّكُ عليهم ، وأوَّل من اتّخذَ النُّدماء ، وضُرِبَ المثلُ به في حُسنِ النِّدام ، وأكثرتْ من ذكره الشُّعراء ، إلى أنْ قال مُتَمِّمُ بنُ نُويْرة وهو يَرثي أخوه مالكاً :
وكُنَّا كنَدْمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً *** من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يَتصدَّعا
وسمعتُ قول الشَّاعر وهو يقول :
وقُلّةٍٍ كَسنانِِ الرُّمح بارزةٍٍ *** ضَحْيانةٍ في شهور الصّيفِ مِحراقِ
بادَرْتُ قُنَّتها صَحْبي وما كَسِلوا *** حتّى نَميْتُ إليها بَعْدَ إشراقِ
وكُنتُ قد حفظتُ قَولَ الآخر ، وهو المَرّارُ بنُ منقذٍ اليِشكُري :
ظلَّ في أَعلى يَفاعٍ جاذِلاً *** يَقْسِمُ الأَمرَ كَقَسْمِ المُؤْتَمر
وقولَ الآخر :
ويظلُّ مُرْتَبِئاً عليها جاذِلاً *** في رأْسِ مَرْقَبةٍ ولأْياً يَرْتَع
وقولَ الشَّنفرى :
ألا لا تَعُدْني إنْ تَشكَّيْتُ خُلّةِ *** شفاني بأعلى ذي البُرَيْقَينِ غَدوتي
فوجدتهم يذكرون الجَذَلَ والشِّفاء، وما يَغْشاهم من السُّرور عند الاشترافِ من فوقِ القِمَمِ ، والأماكن العاليةِ .
ثمّ وقَعْتُ على قولِ جَذيمةَ الأبْرشِ وهو الوضَّاح ، وأنا أَجْردُ كتابَ (( الأَغاني )) لأبي الفَرَج الأصبهاني :
رُبَّما أَوفَيْتُ في عَلَمٍ *** تَرْفَعَنْ ثَوبي شمالاتُ
وقوله ( أوفيتُ ) ، أي : أصعدتُ وارتقيتُ . و ( العَلَمُ ) : الجبل ، قالتِ الخنساءُ :
وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به *** كأنّه عَلَمٌ في رأسهِ نار
فلمَّا قرأتُ هذا الشعر راقني ما يقول ، وحرَّك في نفسي حُبَّ الاستطلاع ، وقلتُ : إنْ كان هناك لَذَّةٌ بَقِيتْ ففي هذا الذي يذكرونه ، والذي يصفون من حال صاحبه ما يصفون ، ولم يكن همي يومئذٍ إلا التَّوقُّلُ في الجبالِ [ أي : الصعود في الجبلِ خاصَّةً ] ، وظننتُ أنَّه إنْ تَمّ لي ذلك فقد نازَعتُ العُقاب كِبْرَه ، وزاحمْته في ذلك الشرَف .
ومعلومٌ أنَّ العقابَ أشدُّ الطَّيرِ الجارِحة فتْكاً ، وأسرعُها انصباباً على صيده ، فهولا يكون في ذلك المكان ، ولا في تلك العَلياءِ إلا إذا كانت بين يَديه فريسته ، أو كان مُطِلاًّ عليها.
فمضَيْتُ إلى جبَلٍ قريْبٍ منا ، يُدعا : (ساقاً ) ، وأنا لا أدري لأيِّ شيءٍ سُمِّى بهذا الاسم ؛ فإن كانوا شبهوه بساق الإنسان فقد أبعدُوا في التشبيه ، لأنَّ الذي رأيتُ شيئاً لا يشبه الساق ، وإنما هو بالعمود المُصْمَتِ أشبه ؛ لامتناعه ، وكونه أملساً ً، ولو سمَّوْه قَرْناً لكان أجدرَ بهم ، وإن كانوا سمَّوه : ساقاً لكثرةِ ما اندقَّ فيه من الأسووق [ جمع : ساق ] فقد أصابوا !.
وانطلقتُ وفي رأسي تلك المعاني ، والأبياتُ ، و فيه مما لم أذكره أضعافٌ ، فلمَّا صِرْتُ في أصلِ ذلك الجبل حَطَطتُ ما معي ، وتخففتُ من الشماغ والطاقية ، وقدّرْتُ في نفسي أنها رُبْعُ ساعةٍ ، وإذا بي قد نزلتُ ، ولبِستُ نعالي ، ثمَّ مضيتُ موفوراً بسيارتي ، فلمَّا صرتُ في نَعْفِه [ أي في المكان الذي فيه غِلَظٌ ،ولايصل إليه السيل ] ، أسرع قلبي في ضَرَبَانه قليلاً فتَجلَّدتُ ، فلما وقعتُ في المكان الذي في وسط الجبل ، وفارقتُ الأرض ، واستوى الصعود عندي والنزول ؛ - وهذا معنى لايعرفه إلا من جرَّب بنفسه - ، أحسستُ كأنَّ شيئاً يجذبني من أسفلي شبيهٌ بِرَسِّ الحُمّى أولَ ما تُخالطُ البدن ، واضطربتْ مواضع قدمي ، وجفَّ ريقي ، وأنكرتُ من نفسي ما أثبتُّ ، ولكن : لابدَّ من صنعا وإن طال السَّفر. وكنتُ في ذلك كما قال الشاعر :
فثبّتُّ ساقي بعد ما كدتُ أَعثرُ
فبَعدَ نَصَبٍ شديدٍ ، وإلحاحٍ كالنَّملةِ ، تَذرَّيْتُ سنامَه ، وقد غَلى الدم في رأسي ، وغطّى على عيْنَيْ ، وقلتُ بعد الذي لاقيتُ : ينبغي ألا يكون أحدٌ من الناسِ امتدَّتْ قدَمُه إلى هذا المكانِ قبلي ، فلمَّا ثابتْ إليَّ نفسي طُفتُ في سطحه فوجدتُ آثاراً لا أثراً فحسبُ ، فتذكّرتُ قولَ الحكيم زهير بنِ أبي سُلمى المُزني :
وإنِّي متى أَهْبِطْ من الأرضِ تَلْعةً *** أَجِدْ أَثراً قبلي جديداً وعافيا
ألا إنَّ المُعافى من عافاه الله ، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره ، وأنتَ مادمتَ تُبصرُ في هذا المنتدى وتسمعُ ، فإنَّك سامعٌ من يقول : قد ارتقيتُ ذلك الجبلَ المُنيفَ ، وذلك الموضعَ المنيعَ ، فلا يخدعنّك بهذا القول عن عقلك ُ، ولايُزيِّنَّنه له في نفسك ، والله تعالى يقول : {هو الذي جَعَلَ لكم الأرضَ ذلولاً فا مْشُوا في مناكِبِها ، وكُلُوا من رِزْقِهِ ، وإليه النُّشُور } . ولمَّا عدا المرتَدُّون من طيِّءٍ وأسدٍ في بُزاخةَ على الإسلام وأهلهِ أمرَ بهم خالدُ بن الوليد رضي الله عنه فَرُمِي بهم من الجبال ، وجعَلَ ذلكَ عذاباً لهم .
وكُنَّا كنَدْمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً *** من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يَتصدَّعا
وسمعتُ قول الشَّاعر وهو يقول :
وقُلّةٍٍ كَسنانِِ الرُّمح بارزةٍٍ *** ضَحْيانةٍ في شهور الصّيفِ مِحراقِ
بادَرْتُ قُنَّتها صَحْبي وما كَسِلوا *** حتّى نَميْتُ إليها بَعْدَ إشراقِ
وكُنتُ قد حفظتُ قَولَ الآخر ، وهو المَرّارُ بنُ منقذٍ اليِشكُري :
ظلَّ في أَعلى يَفاعٍ جاذِلاً *** يَقْسِمُ الأَمرَ كَقَسْمِ المُؤْتَمر
وقولَ الآخر :
ويظلُّ مُرْتَبِئاً عليها جاذِلاً *** في رأْسِ مَرْقَبةٍ ولأْياً يَرْتَع
وقولَ الشَّنفرى :
ألا لا تَعُدْني إنْ تَشكَّيْتُ خُلّةِ *** شفاني بأعلى ذي البُرَيْقَينِ غَدوتي
فوجدتهم يذكرون الجَذَلَ والشِّفاء، وما يَغْشاهم من السُّرور عند الاشترافِ من فوقِ القِمَمِ ، والأماكن العاليةِ .
ثمّ وقَعْتُ على قولِ جَذيمةَ الأبْرشِ وهو الوضَّاح ، وأنا أَجْردُ كتابَ (( الأَغاني )) لأبي الفَرَج الأصبهاني :
رُبَّما أَوفَيْتُ في عَلَمٍ *** تَرْفَعَنْ ثَوبي شمالاتُ
وقوله ( أوفيتُ ) ، أي : أصعدتُ وارتقيتُ . و ( العَلَمُ ) : الجبل ، قالتِ الخنساءُ :
وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به *** كأنّه عَلَمٌ في رأسهِ نار
فلمَّا قرأتُ هذا الشعر راقني ما يقول ، وحرَّك في نفسي حُبَّ الاستطلاع ، وقلتُ : إنْ كان هناك لَذَّةٌ بَقِيتْ ففي هذا الذي يذكرونه ، والذي يصفون من حال صاحبه ما يصفون ، ولم يكن همي يومئذٍ إلا التَّوقُّلُ في الجبالِ [ أي : الصعود في الجبلِ خاصَّةً ] ، وظننتُ أنَّه إنْ تَمّ لي ذلك فقد نازَعتُ العُقاب كِبْرَه ، وزاحمْته في ذلك الشرَف .
ومعلومٌ أنَّ العقابَ أشدُّ الطَّيرِ الجارِحة فتْكاً ، وأسرعُها انصباباً على صيده ، فهولا يكون في ذلك المكان ، ولا في تلك العَلياءِ إلا إذا كانت بين يَديه فريسته ، أو كان مُطِلاًّ عليها.
فمضَيْتُ إلى جبَلٍ قريْبٍ منا ، يُدعا : (ساقاً ) ، وأنا لا أدري لأيِّ شيءٍ سُمِّى بهذا الاسم ؛ فإن كانوا شبهوه بساق الإنسان فقد أبعدُوا في التشبيه ، لأنَّ الذي رأيتُ شيئاً لا يشبه الساق ، وإنما هو بالعمود المُصْمَتِ أشبه ؛ لامتناعه ، وكونه أملساً ً، ولو سمَّوْه قَرْناً لكان أجدرَ بهم ، وإن كانوا سمَّوه : ساقاً لكثرةِ ما اندقَّ فيه من الأسووق [ جمع : ساق ] فقد أصابوا !.
وانطلقتُ وفي رأسي تلك المعاني ، والأبياتُ ، و فيه مما لم أذكره أضعافٌ ، فلمَّا صِرْتُ في أصلِ ذلك الجبل حَطَطتُ ما معي ، وتخففتُ من الشماغ والطاقية ، وقدّرْتُ في نفسي أنها رُبْعُ ساعةٍ ، وإذا بي قد نزلتُ ، ولبِستُ نعالي ، ثمَّ مضيتُ موفوراً بسيارتي ، فلمَّا صرتُ في نَعْفِه [ أي في المكان الذي فيه غِلَظٌ ،ولايصل إليه السيل ] ، أسرع قلبي في ضَرَبَانه قليلاً فتَجلَّدتُ ، فلما وقعتُ في المكان الذي في وسط الجبل ، وفارقتُ الأرض ، واستوى الصعود عندي والنزول ؛ - وهذا معنى لايعرفه إلا من جرَّب بنفسه - ، أحسستُ كأنَّ شيئاً يجذبني من أسفلي شبيهٌ بِرَسِّ الحُمّى أولَ ما تُخالطُ البدن ، واضطربتْ مواضع قدمي ، وجفَّ ريقي ، وأنكرتُ من نفسي ما أثبتُّ ، ولكن : لابدَّ من صنعا وإن طال السَّفر. وكنتُ في ذلك كما قال الشاعر :
فثبّتُّ ساقي بعد ما كدتُ أَعثرُ
فبَعدَ نَصَبٍ شديدٍ ، وإلحاحٍ كالنَّملةِ ، تَذرَّيْتُ سنامَه ، وقد غَلى الدم في رأسي ، وغطّى على عيْنَيْ ، وقلتُ بعد الذي لاقيتُ : ينبغي ألا يكون أحدٌ من الناسِ امتدَّتْ قدَمُه إلى هذا المكانِ قبلي ، فلمَّا ثابتْ إليَّ نفسي طُفتُ في سطحه فوجدتُ آثاراً لا أثراً فحسبُ ، فتذكّرتُ قولَ الحكيم زهير بنِ أبي سُلمى المُزني :
وإنِّي متى أَهْبِطْ من الأرضِ تَلْعةً *** أَجِدْ أَثراً قبلي جديداً وعافيا
ألا إنَّ المُعافى من عافاه الله ، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره ، وأنتَ مادمتَ تُبصرُ في هذا المنتدى وتسمعُ ، فإنَّك سامعٌ من يقول : قد ارتقيتُ ذلك الجبلَ المُنيفَ ، وذلك الموضعَ المنيعَ ، فلا يخدعنّك بهذا القول عن عقلك ُ، ولايُزيِّنَّنه له في نفسك ، والله تعالى يقول : {هو الذي جَعَلَ لكم الأرضَ ذلولاً فا مْشُوا في مناكِبِها ، وكُلُوا من رِزْقِهِ ، وإليه النُّشُور } . ولمَّا عدا المرتَدُّون من طيِّءٍ وأسدٍ في بُزاخةَ على الإسلام وأهلهِ أمرَ بهم خالدُ بن الوليد رضي الله عنه فَرُمِي بهم من الجبال ، وجعَلَ ذلكَ عذاباً لهم .