عاشق المتنبي
24/06/2009, 05:37 AM
جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يسأل ابن عباس عن القرآن فيقول له : غُصْ غوّاص .
أي غُصْ في العلم واستخرج مكنوناته يا غوّاص .
فأمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – لم يجد أفضل من وصف الغوص كي يمنحه ابن عباس رض الله عنهما ذلكم الشاب الفتي الذي تفتحت لديه مواهب العلم والمعرفة .
وإنما كان طالب العلم مثل الغواص لأنه يقتحم المخاطر , ويعقد العزم على التعمق في أسرار المعرفة دون الاكتفاء بالأشياء السطحية الظاهرة , وهذا هو العلم الحقيقي النافع الذي ينفع صاحبه وقارئه .
ولعلمي بأن أخانا السر الكبير كبير الغواصين هنا في هذا المنتدى , ويحب الغوص في العلم كما يحبه في البحر , فإني أستأذنه بوضع هذه السلسلة المباركة من الغوص في المعارف والعلوم , وخاصة ما كان مرتبطاً بكتاب الله تعالى , وما يدور حول البحر وأسراره , وأتمنى من زملائي القراء الكرام أن يتحفوني بما عندهم من مشاركات أو ملحوظات أو اعتراضات بما يعود على الجميع بالفائدة العامة .
الحلقة الأولى : الغوص في القرآن .
جاء ذكر الغوص في القرآن في آيتين بلفظين مختلفين في سياق قصة واحدة , وهي قصة سليمان عليه السلام حينما امتنَّ الله عليه بتسخير الشياطين له :
قال تعالى : {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (82) سورة الأنبياء {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} (37) سورة ص
ففي الآية الأولى جاء لفظ الغوص بصيغة الفعل المضارع ( يغوصون ) وهذا يدل على الاستمرارية في العمل والدوام عليه .
وأما الآية الثانية فقد جاءت بصيغة المبالغة الدالة على المهنة والحرفة ( غوّاص ) بوزن ( فعّال , وهذه أيضا دالة على الاستمرارية في العمل والدوام عليه .
فما الذي نستنبطه من هذا التوافق الدلالي بين الصيغتين ؟
الذي يظهر لي والله أعلم أن الغوص من الأمور المحببة للنفس فمن استمرأ مهنة الغوص واعتاد عليها فإنه يسلك مسلك الاستمرارية والدوام , كما تفعل الشياطين بأمر سليمان التي سخرها ربنا جل وعلا لتستمر بهذا العمل .
وهناك أمر آخر وهو أن الغوص جاء منسوباً للشياطين , وهمْ خلق لهم قدرات عجيبة ركبها الله تعالى فيهم ( انظر الحيوان للجاحظ 6 / 265 ) وهذا يدل على أن الغوص من الأعمال الخطيرة التي لا يطيقها إلا الأشداء من الناس , وذلك أن سليمان وقومه مع ما أعطاهم الله من القوة والبأس إلا أنهم لم يستطيعوا الغوص فسخر الله له الشياطين كي تقوم بهذا العمل الشاق .
والعرب تضرب المثل بالشياطين في القوة والنفاذ , فيقولون للرجل القوي إنه شيطان
قال الجاحظ : " ربما قالوا ( ما فلانٌ إلا شيطانٌ ) على معنى الشهامة والنفاذ وأشباه ذلك " [ الحيوان 6 / 213 ] , وحين بالغوا في مدحِ أبي حنيفة النعمان قالوا بأنه شيطان خرج من البحر [ ثمار القلوب للثعالبي : 74 ]
.الحلقة الثانية : السمك والحوت في القرآن .السَّمَكُ : معروف , وهو الحيوان البحري , وقال في لسان العرب : السمك : الحوت من خلق الماء . واحدته : سَمَكَة
وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء مثل : بقر وبقرة , وشجر وشجرة .
والحوت : هو السمك , وقيل : ما عَظُمَ منه . ومعناه : الرّوَغانُ في الحركة , يقال : حاوتني فلان : أي راوَغَنِي .
ولذلك سمي السّمك ( حوتاً ) لأنه يروغ في حركته .
وهو مفرد وجمعه : أحْوات , وحِوَتة وحِيتَان .
انظر هذه المعاني في : لسان العرب ( سمك , حوت ) .
وحينئذ فالمعاجم جعلت الحوت والسمك شيئا واحداً , وبعضهم أشار إلى أن من الحوت نوع عظيم الخلق , وهو المعروف حاليا , حيث يفرق الناس بين الصغير والكبير , فيجعولن الصغير باختلاف درجاته سمكا , ويجعلون الكبير العظيم حوتاً .
والصواب أن الجميع يطلق عليه : حوت وسمك .
حتى صغار السمك تسمى أحواتاً .
ولو بحثنا في القرآن الكريم لوجدنا أنه استخدم لفظ الحوت ولم يستخدم لفظ ( السّمك ) فجاء ذكر الحوت في خمسة مواضع من القرآن .
اثنان منها يدلان على الحوت العظيم المعروف , وثلاثة مواضع تدل على السمك المعروف .
فالآيتان اللتان تدلان على الحوت ما جاء في قصة يونس عليه السلام , وهي قوله تعالى : {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (142) سورة الصافات , {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (48) سورة القلم
وأما المواضع التي تدل على السمك المعروف ففي قصة موسى مع غلامه : {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} (61) سورة الكهف , {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (63) سورة الكهف
وفي قصة بني إسرائيل الذين حرم عليهم صيد السبت , كما قال تعالى : {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (163) سورة الأعراف
ففي قصة يونس دليل على أن الحوت الذي التقمه هو الحوت الضخم الكبير , وهذا ظاهر .
أما في قصة موسى مع غلامه فقد كان معهما سمكة معروفة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة , والدليل : ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة موسى مع الخضر فقال : " تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل " والمكتل مثل الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا ( لسان العرب : كتل ) وخمسة عشر صاعا تزن قرابة خمسة وأربعين كيلو غرام .
ومن المعروف أن موسى وغلامه سيحملان في المكتل حوتا لن يستغرق حجمها حجم الزنبيل كله , فدل على أنها : سمكة معروفة قد تزن ( 30 ) كيلو تقريبا .
وأما قصة بني إسرائيل مع الصيد فلا شك أنهم كانوا يصيدون السمك , بدليل أنه قال في الآية : ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) ومعنى : شرعا : أي ظاهرة على الماء كثيرة [ تفسير البغوي : 2 / 162 ] وهذا الوصف ينطبق على السمك الصغار وليس الحوت العظيم .
ما أريد أن أصل إليه من خلال هذا التحليل : أن الحوت والسمك لفظان مترادفان , فالحوت يطلق على السمك الصغير والكبير , والسمك كذلك .
وما يظنه بعض الناس أن الحوت هو السمك العظيم الضخم فقط فهو ظن في غير محله .
بقي أن أشير إلى أن الحوت الضخم ورد بالقرآن بلفظ آخر , وهو لفظ ( النون ) وهو لفظ لا يطلق إلا على الحوت الكبير .
قال تعالى عن يونس عليه السلام : {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87) سورة الأنبياء
والله تعالى أعلم وأحكم .
الحلقة الثالثة : الفرق بين اليَمّ والبحر
جاء في لسان العرب أن اليم : هو البحر الملح , والنهر العذب , والدليل على ذلك أن أم موسى أمرت أن تلقيه في اليم وهو نهر النيل . [ لسان العرب : 12 / 647 ] .وجاء في تاج العروس :" اليم : البحر , وقال الأزهري : اسم اليم يطلق على ما كان ماؤه ملحاً زعاقاً , وعلى النهر الكبير العذب الماء وقد أمرت أم موسى حين ولدته وخافت عليه فرعونَ أن تجعله في تابوت ثم تقذفه في اليمّ وهو نهر النيل بمصر وماؤه عذب " انتهى من التاج . 9 / 114 ( يمم ) .وجاء استعماله في القرآن سبع مرات أربع منها في قصة غرق فرعون مع جنوده بعد أن أنجى الله موسى وقومه , واثنتان في قصة أم موسى حين وضعت رضيعها في التابوت فألقته في الماء كي ينجو من قتل فرعون , وموضع واحد في قصة السامري حين توعده موسى عليه السلام أن يلقي العجل في اليم .
وإليكم البيان :
1.وروده في قصة أم موسى حين ألقت ابنها الرضيع ( موسى ) في اليم , قال تعالى : {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (39) سورة طـه وقال سبحانه :{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصصواليَمّ هنا : هو نهر النيل باتفاق أهل العلم , انظر : تاريخ الطبري : 1/389 , تفسير ابن كثير : 3 / 198 , 502 .
وهو هنا لم يرد في هذه القصة إلا بلفظ اليم .
2. وروده في قصة موسى مع فرعون حين تجاوز البحر وقصة غرق فرعون , وقد جاءت الآيات فيه لفظ البحر ولفظ اليَمّ , وجاء لفظ اليم في هذه القصة في أربعة مواضع وهي كالتالي : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (136) سورة الأعراف {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (78) سورة طـه, {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (40) سورة القصص , {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} (40) سورة الذارياتواليم هنا : هو خليج السويس الذي يفصل بين مِصر وجزيرة سيناء , فقد خرج موسى ببني إسرائيل إلى جزيرة سيناء , وفيها حصلت القصص الطويلة مع بني إسرائيل وواعد الله موسى عند جبل الطور , وفيها حصل التيه لبني إسرائيل , قال ابن كثير عند شرحه لمعنى طور سيناء : " وطور سيناء هو طور سينين , وهو الجبل الذي كلّمَ الله عليه موسى من عمران عليه السلام " تفسير ابن كثير : 3 / 324 , وانظر معجم البلدان : 3 /300 .ولأن الخليج الذي عبره موسى كان جزءا من بحر العرب الكبير ( البحر الأحمر ) فقد جاءت بعض الآيات بلفظ البحر ومن ذلك قوله تعالى :{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (63) سورة الشعراء3.. وروده في قصة موسى مع السامري الذي صنع العجل ,{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (97) سورة طـه . ومن المعلوم أن بني إسرائيل عبدوا العجل بعد أن عبروا خليج السويس , وذلك في جزيرة سيناء , وهي التي حصل فيها التيه العظيم , وحصلت فيها حوادث جسيمة لموسى مع بني إسرائيل فعبدوا العجل , وأمرهم الله بقتل أنفسهم , وقصة الاستسقاء , وذهاب موسى للقاء ربه عند الطور , وكل هذه الحوادث جاءت مفصلة في سورة البقرة والأعراف وطه وغيرهما .إذن فعبادة العجل حصلت في جزيرة سيناء قبل دخولهم الأرض المقدسة وهي فلسطين , كما نفهم من سياق الآيات التالية : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (77) {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (78) {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (79) {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (80) {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (81) {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (82) {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى} (83) {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (84) {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (85){فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} (86) {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (87){فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (88) سورة طـه فنلحظ هنا أن عبادة العجل كانت في جزيرة سيناء .
فأين اليم الذي سيلقي فيه موسى العجل ؟الجواب ما جاء في سنن أبي حاتم من حديث رضي الله عنه أن موسى أخذ العجل فَبرده على شَطِّ نَهْرٍ , فلم يشرب أحدٌ من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفرّ وجهه " تفسير ابن كثير : 3 / 220 .وفي هذا الأثر دليل على أن المراد باليم هو النهر , ولعله نهر في جزيرة سيناء , ولو فرضنا أن الأثر ضعيف فإنه ليس حول موسى إلا خليجان : إما خليج السويس الذي عبره وهو أقرب إليه , والثاني : خليج العقبة .
من خلال هذا العرض تبين لي أن ما يلي :
1. أنّ اليَمّ يطلق على النهر العذب .
2. ويطلق أيضاً على البحر المتقارب ساحلاه , وهو ما يسمى بالخليج .
3. يجوز إطلاق لفظ البحر على الخليج , فكل يَمٍّ بحر , وليس كل بحرٍ يَمّ
4. أما البحر فهو معروف , والمعروف لا يعرّف .هذا ما لدي في هذا الموضوع وأرجو أن أكون أتيت ما يفيد القارئ الكريم , ومَنْ كانت لديه إضافة فليفدنا بها مشكورا , وأخص بهذا الحديث أخي العزيز ( السر الكبير ) الذي أشار بأن لديه ما يضيفه حول هذا الموضوع .
الحلقة الرابعة : الريح العاصف والقاصف
.جاء في لسان العرب :
عصفت الريح تعصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً , وهي ريحٌ عاصفٌ وعاصِفَة ... إذا اشتدت , وفي التنزيل " والعاصفات عصفاً " يعني الرياح , والريح تعصف ما مرت عليه من جَوَلان التراب تمضي به .. وريح عاصفة : شديدة الهبوب ... والمعصِفات : الرياح التي تثير السحاب والورق وعصْف الزرع .. وهي من العصف وهي السرعة يقولون : أعصفت الناقة في السير إذا أسرعت . انتهى من لسان العرب ( عصف ) 9 / 248 .وجاء في اللسان أيضاً :
القصْف هو الكسر , وقصف الشيء يقصِفه قصفاً أي كسره .وريحٌ قاصفٌ وقاصفة : شديدة تُكسِّرُ ما مرت به من الشجر وغيره . ( لسان العرب ( قصف ) 9 / 283 . جاءت الريح في البحر في القرآن الكريم بتعبيرين :
الأول :الريح العاصف وهي قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونسفبين سبحانه أن الريح العاصف هنا جاءت شديدة لتحرك السفينة وتسبب لها الاضطراب حتى هلع ركابها والتجؤوا إلى الله تعالى لينجيهم , ولذا جاء بعدها : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ } (23) سورة يونسوالعاصف هنا هي الريح شديدة السرعة .
وهي تكون في البر والبحر , فأما البحر فكالآية السابقة , وأما البر فكقوله تعالى : {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (18) سورة إبراهيموقد تكون الريح العاصف ريح خير وبركة كقوله تعالى عن ريح سليمان :
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (81) سورة الأنبياء , والدليل على أنها ريح خير وليست ريح عذاب هو قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} (36) سورة ص .الثاني : الريح القاصف , وهي ريح مفاجئة شديدة لا تبقي ولا تذر , وهي تكسر السفن وتكسر كل ما تواجهه , ولذا جاء التعبير القرآني عنها بالهلاك المحتوم {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (69) سورة الإسراء .فعبر عن الريح هنا بأنها قاصف مغرقة و هي ريح بحرية .
وقد جاء في لسان العرب كما سبق أنها قد تكون في البر فتقتلع الأشجار .
ولو تأملنا الكلام عن الريح القاصف لوجدنا أنه قال سبحانه : (قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ ) فكانت صفة القصف ليست للريح كلها وإنما لقطعة منها , وكأن القطعة الكبرى هي الريح العاصفة المذكورة في آية يونس ولذا قال سبحانه في سورة يونس : ( جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ )ولكم أن تتخيلوا أحبتي الكرام حين تهب الريح العاصفة الشديدة في البحر على السفن , فيأذن الله تعالى لقطعة من هذه الريح أن تكون أعنف وأشد وطأة فتأتي بطريقة مفاجئة شديدة فتحدث انقلاباً شديدا للفلك وغرقا هائلاً , وهذه الريح هي القاصفة .
ويدل على أن الريح القاصفة جزء من الريح العاصفة أن القرآن لم يذكر القاصفة إلا مرة واحدة في سورة الإسراء , في حين أنه كرر العاصفة في أكثر من آية , ليدل على أنها هي الريح الأصل , وهي الأم .
قد يقول قائل : كيف تكون الريح قطعاً , فجزء منها عاصف وجزء منها قاصف ؟
فالجواب على ذلك :
أن هذا بأمر الله تعالى , وهو القادر على تنوع الريح , وكما جعل الله تعالى الليل قطعاً فهو قادر على جعل الريح قطعاً وأجزاء كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (27) سورة يونسولنلحظْ الفرق في النطق بين العاصفة والقاصفة .
فهما متقاربان في اللفظ لا يفرق بينهما إلا الحرف الأول وهو فاء الكلمة .
( عصف ) ( قصف ) وحرف القاف حرف شديد قوي مفخم , ينطلق فيحدث صوتا انفجاريا في الفم , ويخرج الصوت معه أفخم ما كان .أما العين فهي صوت رخو رقيق وهو مع ذلك صوت مجهور قوي ولكنه ليس بقوة وفخامة القاف , فناسب مجيء الصوت القوي للحدث القوي وهو القصف , ومجي الصوت الأضعف للحدث الأضعف وهو العصف .وهذا يسمى في لغة العرب : مشابهة اللفظ للمعنى , ولابن جني كلام جميل ولطيف حول هذا الموضوع في كتاب الخصائص : باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني : 2 / 154 .
فليراجعه من أراد الاستفادة .
في ختام كلامي ألخص ما سبق :
1.أن الريح العاصف والريح القاصف يكونان في البر والبحر , وليس كما توهمه كثير من الناس أن العاصف في البر والقاصف في البحر .
2.أن الريح العاصف أوسع وأكبر من الريح القاصف , في حين أن الريح القاصف تكون سريعة ومفاجئة .
3.أن الريح العاصف قد تكون رحمة , أما القاصف فهي لا تكون إلا عذاباً لأنها تحدث غرقا في البحر ودماراً وانكساراً في البر .والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الحلقة الخامسة : صيد البر والبحر :قال الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96) سورة المائدة
لماذا حرم الله صيد البر على المحرم , وأجاز له صيد البحر ؟
بحثت عن العلة وراء الحكم السابق فلم أعثر على شيء بين , فحاولت الالتماس لعل الله أن يوفقني إليه , ووجدت أن العلة تدور حول ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الغالب على صيد البحر أن يكون لحاجة ماسة , فهو طعامُ أقْوامٍ وشُعُوب ولذلك قال الله تعالى ( متاعاً لكم وللسيارة ) , فهو متاع لمن يصطاده , أما صيد البر فالغالب فيه أن يكون للترفُّه والتَّنَعُّم , وزيادة في الاستمتاع , ولما كان الْمُحْرِمَ مأموراً بالخشوع والخضوع لله والابتعاد عن ملذات الدنيا من الطيب والنساء أُمِرَ أن يبتعد عن الترفه بالصيد .
الوجه الثاني : أنّ الْمُحْرِمَ في الغالب لا يكون لديه صيد البحر قريباً من متناولِ يديه , لأنه في جبال مكة القاحلة , فالامتحان فيه أقل , أما صيد البر فهو قريبٌ له وبين يديه , فحرِّم عليه القريب امتحاناً وابتلاء ليُعلمَ الصابر المطيع كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (94) سورة المائدة .
ولعلنا نلحظ هنا أن الله تعالى قال : " تناله أيديكم ورماحكم " وهذا يدل على أنه صيد بري , لأن صيد البحر لا يكون في متناول اليد والرماح , بل إن الرماح لا تستخدم في صيد البحر في الأصل .
الوجه الثالث : أنّ صيدَ البَحْرِ ليس فيه إراقة دم في الغالب حيث يتمُّ الصيد بالشبكات والسنارات , أما صيد البر فلا يتم إلا بإراقة الدم والقتل , ولذلك قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } (95) سورة المائدة .
وأما صيد البحر فليس فيه قتل ( في الغالب ) فأباحه .
الحلقة السادسة : الصيام والتقوى .
لما فرض الله الصوم على عباده بيّنَ لهم الحكمة الجليلة من هذه العبادة العظيمة فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة .
فبيّنَ هنا أن التقوى هي الحكمة العظيمة من الصوم , وكل الفوائد الجليلة المستمدة من الصوم إنما هي متفرعة عن التقوى , ولذلك جاء التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار والتجدد ( تتقون ) , فكأن المسلم إذا صام كل يوم , فإن التقوى تتجدد معه يومياً .
فما هي التقوى ؟ وكيف يكون الصيام جالباً للتقوى ؟
التقوى : هي اسمٌ مأخوذ من الفعل : وَقِي ثم دخلت عليه الزوائد فصار : اتقى يتَّقي تُقى وتَقِيَّةً وتُقاة بمعنى : الحذر . وأصل معنى التقوى : الوقاية والحذر من الشيء كما قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
أما المعنى الشرعي للتقوى فقد اختلف فيه بين أهل العلم بمعاني متقاربة تؤدي إلى غرض واحد , ولعل أقواها وأجودها وأوضحها ما ورد عن الحسن البصري رحمه الله : بأن التقوى :" أن تجعل بينك وبين الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه "([1] (http://www.mekshat.com/vb/#_ftn1)) .
كيف يكون الصيام جالباً للتقوى ؟
حينما نتأمل عبادة الصيام نجد أن لها حكما عظيمة كلها ترجع إلى معنى التقوى الواسع , ومن تلك الحكم التي تجلب التقوى([2] (http://www.mekshat.com/vb/#_ftn2)) :
1.أن الصوم عبادة يتقرب فيها العبد إلى ربه بامتثال أمره بترك محبوباته من طعام وشراب ونكاح . راجياً ثواب الله تعالى , فيظهر بذلك صدق إيمانه , وكمال عبوديته لله وقوةُ محبته له ورجائه ما عنده , فإن الإنسان لا يترك محبوباً له إلا لما هو أعظم عنده منه .
2.أن الصوم يدرب على مراقبة الله تعالى , فيترك الصائم ما تهواه نفسه , مع قدرته عليه , لعلمه باطلاع الله عليه , وهذا أساس التقوى .
3.أن الصوم يضيق مجاري الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم , والصوم يضعف نفوذه , وتقل منه المعاصي .
4.أن الإكثار من تناول الشهوات يستوجب الغفلة وقسوة القلب , والتخفيف منها يستوجب يقظة القلب والروح , فيكون الإنسان متصلاً بربه , منشغلاً بطاعته .
5.أن الصوم يمرن على ضبط النفس والسيطرة عليها , وإمساك زمامها عن الوقوع في المعاصي والشهوات المحرمة .
6.أن الصوم يكسر من حدة النفس وكبريائها , ويوجب الخضوع واللين .
7.أن الغني إذا ذاق ألم الجوع والظمأ عرف قدر نعمة الله عليه , فيستوجب زيادة في الحمد والشكر , ومواساة الفقراء , وهذا من التقوى .
8.أن الصائم تكثر طاعته غالبا من صيام وصدقة وقراءة قرآن , وهذه من خصال التقوى .
9.قلتُ : من أبرز العلاقة بين الصوم والتقوى أن الصوم يكون في رمضان , وشهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه القرآن كما قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (185) سورة البقرة , وكتاب الله تعالى جاء بالتقوى , وبيّنَ سبحانه أن القرآن فيه هدى للمتقين {الم , ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} سورة البقرة , وحينئذ فالصوم جالب للتقوى من خلال الإكثار من قراءة القرآن العظيم الذي أنزل في رمضان , وهو سبيل التقوى وعنوانها , كما قال سبحانه أيضاً : {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (113) سورة طـه , وقال سبحانه : {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28) سورة الزمر .
فهل رأيتم مثل هذا التلازم العظيم ؟
القرآن سبب للتقوى , وأُنْزِلَ في شهر الصيام , والصيام سبب للتقوى . إذن فما أقوى العلاقة بين الصيام وقراءة القرآن ! وما أعظم أن يكثر الصائم من تلاوة كتاب الله تعالى علّه أن يظفر بالتقوى من جهتين :
من جهة الصيام , ومن جهة الكتاب العزيز , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
هذه أبرز مظاهر التقوى التي تُستجلب بالصوم , والحديث فيها يطول , ولكن كما قيل : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق .
فما أعظم حكمة الله تعالى وأبلغَها , وما أنفعَ شرائعَه للخلق وأصلحها .
____________________
([1]) تفسير ابن كثير : 1 / 58 .
([2]) انظر في هذه الحكم ( من 1-8 ): تفسير السعدي 1/162-163 , مجالس شهر رمضان لابن عثيمين : 63 – 66 .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة السابعة : تأملات في آيات .( 1 ) :
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
فإني أطرح بين أيدي القراء الكرام بعض التأملات في آيات القرآن الكريم , مما عنّ لي في هذا الشهر الكريم أو غيره , وقد أمرنا ربنا بتدبر الكتاب العزيز ليزداد إيماننا , ولنتذكر إن كنا من أصحاب العقول والألباب : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص .
التأمل الأول :
قال الله تعالى : {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (72) سورة النحل .
وقال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } (67) سورة العنكبوت .
إذا تأملنا الآيتين السابقتين وجدناهما ينتهيان بجملة متشابهة (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ).
ولكن بينهما فرق لطيف , وهو أن آية النحل فيها الضمير ( هم ) في حين أن آية العنكبوت ليس فيها الضمير .
فما السر يا ترى ؟
تأملت مليا في الآيتين لأعرف الفرق , فوجدت أن الآيتين تتحدثان عن نِعَمِ الله تعالى على الناس , ولأن أولى الناس بالخطاب هم العرب الذين نزل فيهم القرآن , وهم أول من أنكره وكفر به , فإن آية النحل تتحدث عن نِعَمٍ عامة يشترك فيها البشر كلهم , وهي نعمة الأزواج والأولاد والرزق من الطيبات , فجاء الضمير ( هم ) لإرادة الاختصاص بأنكم أيها المخاطبون أول من كفر بهذه النعم .
أما آية العنكبوت فتتحدث عن نعمة الحرم الآمن , وهي نعمة خاصة بالعرب , فلما جاء بيان إنكارهم لهذه النعمة لم يأت الضمير ( هم ) ؛ لأنه لا أحد يشاركهم في هذه النعمة , فلا مقام للاختصاص هنا .
والله تعالى أعلم .
التأمل الثاني :
قال تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (143) {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } (144) سورة البقرة .
تتحدث هذه الآيات عن القبلة , وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام .
وقد أثبت العلم الحديث أن الكعبة تمثل مركز الكرة الأرضية , أي مركز الوسط فيها , وقد جاء ذكر الوسطية هنا ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) , ولم يأت في موضع آخر من القرآن , وهو موضعٌ ذكرت فيه آيات القبلة والتوجه إليها , فكأن فيه إشارة إلى أن هذه الأمة وسط في العقيدة والشرائع والأخلاق , وكذلك المكان . فقبلة المسلمين وسط العالم أجمع .
فجاء ذكر الوسطية هنا لتدل على شمول الوسطية الحسية ( المكان ) والمعنوية ( الدين والشريعة ).
ويدل على وسطية المكان قوله تعالى في موضع آخر : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (92) سورة الأنعام , وقوله سبحانه : { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (7) سورة الشورى .
فجعل الله تعالى أم القرى وسطا بين ما حولها , لأن القرى الأخرى إن كانت حول مكة فهي دائرة عليها , ومكة ستكون في الوسط . والله تعالى أعلم .
الحلقة الثامنة : تأملات في آيات ( 2 ) :
التأمل الثالث :
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} (21) سورة الزمر .وقال تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (20) سورة الحديد .حين نقرأ الآيتين نلحظ تشابهاً في وصف نبات الأرض بعد الغيث وذلك في قوله :
(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) ( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا )ولكن بينهما فرق لطيف , وهو أن آية الزمر قال فيها ( ثم يجعله ) وآية الحديد قال فيها ( ثم يكون ) فما السر في ذلك ؟الجواب – والله أعلم – أن الآية الأولى ( آية الزمر ) فيه الحديث عن قدرة الله تعالى على إنزال المطر , وتصريفه في الأرض , ولهذا قال : ( أنزل ) ( سَلَكَه ) ( يُخْرِجُ ) وكلها أفعال مسندةٌ إلى الله تعالى لبيان قدرته , فناسب أن يقول ( ثم يجعله ) استمراراً لإسناد الفعل إلى القادر جل وعلا .وأما آية الحديد , فالحديث عن تشبيه الدنيا بالغيث ونباته , والنبات هو الذي أعجب المزارعين , فناسب أن يسند الفعل إلى النبات بالكون العام ( ثم يكون ) أي النبات .التأمل الرابع : قال تعالى :
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ , أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ , لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ , أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ , أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ , لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } ( 63- 70) سورة الواقعة .نلحظ أن الله تعالى قال في الزرع : (لَجَعَلْنَاهُ ) بإدخال اللام , وقال في المطر والماء (جَعَلْنَاهُ ) بدون اللام . فما الفرق بين الموضعين ؟الجواب – الله أعلم – أن الزرع فيه بيان لعمل البشر فيه ( تحرثون , تزرعون ) فناسب أن تدخل اللام تقوية للجواب , لأن وقع فساد الزرع في نفوس المزارعين أشد وأقسى , لأنهم عملوه بأيدهم , فدخلت اللام لتبين التأكيد على قدرة الله تعالى على إفساده ولو أنه من صنعكم وتعبكم .أما المطر فليس للبشر أي تصرف فيه ؛ لأنه من عند الله تعالى أنزله وهيأه للناس وجعله عذبا صالحاً للشرب .
فقدرة الله تعالى على إفساد الغيث وتحويله إلى أجاج أبين وأوضح من قدرته على الزرع ( بالنسبة للمخاطبين ) , فلم تدخل اللام هنا , لعدم الحاجة إليها .
والله تعالى أعلم
الحلقة التاسعة : تأملات في آيات ( 3 )
التأمل الخامس :
قال تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} (80) {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (81) سورة الأعراف .
وقال تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} (54) {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (55) سورة النمل .
لو تأملنا هذين المقطعين من الآيات الكريمة لوجدنا أنها تتحدث عن خطاب لوط لقومه , ولكننا نلحظ في آية الأعراف أنه وصفهم بأنهم ( قوم مسرفون ) , وأما في سورة النمل , فقد وصفهم بقوله : (أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .
فلماذا قال في الأولى ( مسرفون ) وقال في الثانية : ( تجهلون ) ؟
الجواب والله أعلم :
أنه لما قال في الأعراف : (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ) ناسب أن يصفهم بالإسراف وتعدي الحدّ , لأن من يعمل عملاً سيئاً لم يُسبق إليه يكون عادة بسبب السَّرَف الذي يصيبه إلى أن يتجاوز المحدود والمعقول .
وأيُّ مجاوزة للمحدود والمعقول أعظم مما يفعله قوم لوط ؟ إذن فهو الإسْرَاف بعينه .
وأما في آية النمل فلم يذكر قبلها جملة ( ما سبقكم ... ) بل قال : ( وأنتم تبصرون )
ومَنْ يعمل عملاً يخالف الفطرة , وهو في كامل وعيه وبصيرته فهو الجاهل الأحمق .
ونلحظ أيضاً أنه قال في آية الأعراف ( مسرفون ) فعبر بالاسم , ولم يقل : تسرفون .
وأما في سورة النمل فعبَّر بالفعل المضارع ( تجهلون ) ولم يقل ( جاهلون ).
والعلة في ذلك والله أعلم أن الإسرَافَ – غالباً - طبعٌ في النفس لا يتغير , والاسم يدل على الثبات دائماً .
وأما الجهل فهو يزول مع العلم , فعبر بالفعل الدال على التجدد , لأن الجهل ليس ملازماً لهم , ولكنه متجدد معهم في كل فاحشة يعملونها , وكأن في التعبير بالفعل ( تجهلون ) دلالةً على أنهم يَتَقَصَّدُونَ الجهلَ والصَّدّ عن النصيحة والعلم , فيتجدد معهم الجهل كل مرة فناسب أن يأتي الفعل المضارع .
والله تعالى أعلم وأحكم .
الحلقة العاشرة : الكافر يسجد لله .
عندما كنت أقرأ من كتاب الله تعالى ووصلت إلى هذه الآية الكريمة من سورة الرعد {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*} (15) سورةالرعد استوقفتني كثيراً , وجلست أسأل نفسي :
هذه الآية تتحدث عن سجود جميع الخلائق للواحد القهار , فقوله ( من في السموات والأرض ) يشمل الجن والإنس والملائكة والجمادات , ويشمل المؤمن والكافر , والبر والفاجر , لأن ( مَنْ ) اسم موصول , وهو من ألفاظ العموم الذي يشمل جميع ما في صلته , وهذا السجود نوعان : سجودطوعي أي اختياري , وسجود كرهي أي غير اختياري ( طوعا وكرها ) , ونحن نرى الكافر لايسجد لله تعالى .
فكيف تقول الآية عنه إنه يسجد ؟ , وهل الكافر داخل في الآية فعلاً كما فهمته ؟
حينما تأملت الآية وجدت الجواب نعم , الكافر يسجد لله تعالى , ولكنه سجود كرهي وليس طوعياً , أي أنه يسجد سجوداً لا يثاب عليه , وسجوده يكون والله أعلم من حيث لا يشعر , وذلك أن جسده وأعضاء جسمه , وملايين الخلايا في جسده تسبح بحمد الله وهو لا يشعر , ومصداق ذلك قوله تعالى : {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء .
وسجود الكافر الكرهي لا يلزم أن يكون سجوداً حسياً بحيث يحني جسده لله تعالى , بل هو تسبيح الأعضاء لله تعالى , وإخباتها لأمره , وهذا سجود .
أما المؤمن فهو يسجد النوعين السجود الطوعي , فيسجد لله بطوعه واختياره سجوداً حسياً يثاب عليه , ويسجد لله كرهاً بغير اختياره , وذلك حينما تسبح أعضاؤه بحمد الله تعالى وهو لا يشعر , وقد يثاب المؤمن على هذا النوع من السجود إذا أخلص النية لله تعالى وخاصة حين النوم , إذا نوى بنومه التقوي على الطاعة , فتظل أعضاؤه تسبح بحمد الله وهو نائم , وحسناته مكتوبة عند من لا تخفى عليه خافية سبحانه .
فسبحان من أخبت الخلق لأمره , وسبحان من خضعت لعظمته الرقاب , وصدق الله حيث يقول :{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران .
هذا ما فهمته من معنى الآية وحينما رجعت إلى التفاسير وجدت فيها ما يؤيد فهمي بحمد الله , فقد ذكر القرطبي في تفسيره عدة أقوال لأهل العلم في تفسير هذه الآية , منها أن المؤمن يسجد طوعاً , والكافر يسجد كرهاً بالسيف , ومنها أن في الآية حذفاً أي وبعض من في الأرض , ولا يخفى ما في هذين القولين من ضعف , أما الذي رجحه القرطبي فهو " أن المؤمن يسجد ببدنه طوعاً , وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق , يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع " ا.هـ
والمعنى : أن الكافر يسجد سجوداً لا يشعر به , وإنما لحاجة بدنه وجسمه إلى خالقه . والله أعلم .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif الحلقة الحادية عشرة : غيض الماء وغيض الأرحام ( المعنى والتناسب ) :
قال الله تعالى : " {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود
وقال سبحانه : {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (8) سورة الرعد
ذكر في الآيتين الكريمتين ( غيض الماء ) ( تغيض الأرحام ) فما المعنى ؟ وهل بينهما علاقة ؟
الجواب :
وغيض الماء :
غاض الماءُ يَغيضُ غيضاً أي : نقص ونضَب وقلَّ , وغار في الأرض .
وتغيض الأرحام : قال الزجاج : معناه يعلم ما نقص الحمل عن تسعة أشهر وما زاد على التسعة .وقيل : ما نقص عن أن يتم حتى يموت , وما زاد حتى يتم الحمل .
[ لسان العرب : 7/201]
وقد ذكر القرطبي عدة أقوال في معنى ( غيض الأرحام ) كلُّها ترجع إلى معنى النقص :
قال ابن عباسٍ و قتادة : المعنى ما تُسْقِط قبل التسعة أشهر وما تزداد فوق التسعة .
وقال مجاهد : إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها , فإن زادت على التسعة كان تماماً لما نقص .
وروي عن مجاهد أيضاً : الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم , والزيادة ما تزداد منه .
وقيل : الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد , كنقصان إصبَعٍ أو غيرها , وزيادة أصبعٍ أو غيرها .
وقيل : الغيض انقطاع دم الحيض أثناء الحمل , وما تزداد : هو دم النفاس بعد الوضع .
[ الجامع لأحكام القرآن : 9/188 ]
ولا شك أن كل ما ذكر محتمل لمعنى غيض الأرحام , ولا منافاة بينها , وذلك من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد .
وأضاف الزمخشري أن غيض الأرحام هو أن يكون فيها ولد واحد فقط , وزيادتها أن يكون فيها أكثر من ولد .
فالخلاصة أن النقص والزيادة في الرحم أما راجعة للمدة , أو عدد الولد , أو جسم الجنين فقد يكون ناقصا وقد يكون تاما مزيدا .
[ الكشاف : 2/ 515 ] .
قال أبوسليمان : وقد يكون للعلم الحديث اكتشافات في معنى زيادة الأرحام ونقصانها غير ما ذكر ولا سيما أن قوله وما تغيض الأرحام يحتمل وجهين : إما أن يكون فعلاً لازماً , أي أن الرحم غاضت ونقصت أو ازدادت , وكأن في هذا مجازاً عقلياً والله أعلم , أي غاضت الرحم بما فيها , وازدات بما فيها . كما تقول : فاض الوادي أو نقص , والوادي لا يزيد ولا ينقص لأنه مَجْرى , وإنما الذي يزيد وينقص هو الماء الذي يجري فيه . وقد يفسر لنا العلم الحديث غيض الرحم دون الحاجة إلى اللجوء للمجاز .
وإما أن كان فعلاً متعدياً أي ما تنقصه الأرحام فهذا ظاهر , وجميع التفاسير السابقة راجعة إلى هذا المعنى .
والله تعالى أعلم وأحكم .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة الثانية عشرة : الفرق بين موضعين عن غرق قوم موسى وقوم نوح عليهما السلام :
قال الله تعالى حكاية عن آل فرعون بعدما نجى الله موسى ومن معه في البحر :
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ , وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (66) سورة الشعراء
ثم قال عن نوح عليه السلام في السورة نفسها :
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} (120) سورة الشعراء .
فنلحظ أنه في قصة موسى قال : ثم أغرقنا الآخرين , وأما في قصة نوح فقال : ثم أغرقنا بعدُ الباقين .
فلماذا اختلف التعبير ؟
الجواب والله أعلم :
أن قصة موسى كانت بين طرفين اثنين : موسى وبني إسرائيل من جهة , وفرعون وجنوده من جهة أخرى فإذا أنجى الله فئة معينة فقد غرقت الفئة الأخرى , فلذلك قال سبحانه : أغرقنا الآخرين .
وأما في قصة نوح فالصراع بين نوح ومن آمن معه من جهة ( وما آمن معه إلا قليل ) , وبين باقي سكان المعمورة من جهة أخرى , لأنه ليس على وجه الأرض سكان آخرون غير قوم نوح كما نص عليه كثير من المفسرين والمؤرخين , وكما هو ظاهر القرآن الكريم كما سأبينه في موضوع خاص إن شاء الله .
فلما كان الناجون هم أصحاب الفلك بين سبحانه أن كل من بقي ولم يركب فهو من الهالكين و فذلك قال سبحانه : ( ثم أغرقنا بعد الباقين ) أي أن من بقي على وجه الأرض ولم يركب الفلك فإنه كان من المغرقين الهالكين .
قد يقول قائل : لقد قال الله تعالى في سورة الصافات عن نوح وقومه :
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (79) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (80) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (81) {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (82) سورة الصافات
فقال هنا : ثم أغرقنا الآخرين .
أي كرر ما قاله عن موسى وقومه , وهذا يخالف جوابنا عن نهاية قوم نوح في سورة الشعراء ؟
والجواب :
أنه في سورة الصافات جاء بيان من نجا قبل ذلك فقال سبحانه : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ , وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ , وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ , وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ , سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ , إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ , إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (82) سورة الصافات.
فنلحظ من سياق الآيات أن الله تعالى بين أنه جعل ذرية نوح هم الباقين , فحينئذ من باب مفهوم المخالفة أن غير ذريته لم يبقوا , فكان التعبير العام في آخر القصة : " ثم أغرقنا الآخرين " .
وأما في سورة الشعراء فلم يرد ذكر لبقاء ذرية نوح عليه السلام .
والله تعالى أعلم وأحكم .
لحلقة الثالثة عشرة : وصف الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام .
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } (77) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (78) {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } (79) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (80) {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (81) {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } (82) سورة الشعراء .
هذه الآيات تتحدث عن صفات لله تعالى رتبها إبراهيم - عليه السلام – ترتيباً عجيباً وهي كالتالي :
1.الخلق .
2.الهداية .
3.الإطعام .
4.السقاية .
5.الشفاء من الأمراض .
6.الإماتة .
7.الإحياء .
8.مغفرة الخطايا يوم القيامة .
وهذه الأمور والصفات مرتبة ترتيبا عظيما بحسب زمن وجودها للإنسان , فأول ما يكون الإنسان عدماً ثم يُخلَق , وحين يخرج للدنيا يحتاج إلى الهداية كما قال تعالى : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50) سورة طـه.
ويحتاج للطعام والشراب والدواء , ثم يموت فيبعثه الله تعالى , ثم يحتاج إلى المغفرة يوم القيامة .
وقوله (فَهُوَ يَهْدِينِ , وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ , وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) فيها عدة فوائد :
1.أن هذه الصفات الأربع هي من أعظم نعم الله على ابن آدم ( الهداية , والإطعام , السقاية , الدواء ) فجميع نعم الدنيا تدور حول هذه الأربع .
2.قدم الإطعام على السقاية , لأن الإنسان يحتاج للماء – غالباً – بعد الطعام , فلو لم يَطعَمْ لم يظمأ .
3.ذكر المرض بعد الطعام والشراب إشارة إلى الأمراض غالباً ناتجةٌ عن هذين الأمرين ( المطعوم والمشروب ) .
4.نسب الهداية والإطعام والسقاية والشفاء إلى الله تعالى , وأما المرض فنسبه إلى نفسه فقال ( مرضتُ ) ولم يقل أمرضني , والْمُمْرِضُ والشافي هو الله تعالى كما قال تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } (17) سورة الأنعام
. والعلة في أنه نسب المرض إلى نفسه ولم ينسبه إلى الله ما يلي :
1· أن المقام مقام ثناء على الله تعالى , وبيان أحقيته بالألوهية , وأنه يستحق أن يعبد وحده لا شريك له , فناسب حينئذ أن يتأدب مع الله بعدم نسبة الإمراض إليه , بل نسب أمور الخير إلى الله تعالى وهي الهداية والإطعام والسقاية والشفاء , وأما المرض فلأنه في ظاهره بلاء وشر فلم ينسبه إلى الله , ونظير هذا قوله تعالى : {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (36) سورة الروم , وقوله سبحانه : {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (10) سورة الجن .
2 · أن المرض غالبا يأتي نتيجة لتصرف الإنسان نفسه إما بسوء تغذية , وإما بعدم وقاية , لأن الله تعالى خلق الكون في أحسن تقويم , وما ينتج من أمراض ومشاكل صحية إنما هو بسبب إفساد بني آدم في الأرض والبيئة كما قال تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم .
وقوله سبحانه : ( يميتني ثم يحيين ) لاحِظوا مجيء حرف العطف ( ثم ) الفاصل بين الموت والحياة الآخرة , وهو يدل على الزمن المتراخي , لأن البعث لا يكون بعد الموت مباشرة , في حين أن قوله ( يطعمني ويسقين ) جاء بحرف الواو الدالة على اشتراك الحدثين في وقت واحد , لأن الإنسان يحتاج للطعام والشراب في وقت واحد .
وقوله سبحانه : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } : جاء بالفعل المضارع ( أطمع ) للدلالة على تجدد الطمع والرجاء عند إبراهيم لأن المضارع يدل على التجدد والحالية , فهو يطمع ويرجو في كل حال .
ويدل على ان الطمع محبوب إذا كنت تطمع فيما عند الله تعالى , وليس فيما عند الخلق كما قال تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} ( 56) سورة الأعراف , وقال سبحانه : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (16) سورة السجدة .
وقوله ( يوم الدين ) : جاء بهذا الاسم لمناسبة ما قبله , لأنه لما ذكر نعم الله عليه , جاء بالاسم الدال على المجازاة والمحاسبة , وهو يوم الدين , أي يوم المداينة والحساب , وكلٌّ يدان بعلمه , نسأل الله الفوز والنجاة .
والله تعالى أعلم .
الحلقة الرابعة عشرة : هل ورد الأمر بالحج مرة واحدة في القرآن الكريم ؟؟
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الحج فريضة على المسلم المستطيع – ذكرا كان أو أنثى - مرة واحدة في حياته , وما سوى ذلك فهو تطوع , ويدل على ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : " الحج مرة, فمَنْ زَادَ فهو تطوع " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بسند صحيح .
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ياأيّها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسولالله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم "رواه مسلم .
ولكني أردت استنباط هذا المعنى من القرآن الكريم , فتأملت بعض الآيات فوجدت فيها دلالة خفية على أن الحج ليس واجبا على جميع الناس وقتاً واحدا كسائر الفرائض كالصلاة والصوم .
بل يحج أناس هذا العام , ثم يحج غيرهم العام القابل , وهذا معناه أن الحج ليس فرضا على مُكَلَّفٍ إلا مرةً واحدةً في حياته , لكي يفسح المجال لغيره ليحج في عام قادم .
وهكذا ينقسم المسلمون وقت الحج إلى حجاج , وغير حجاج . ولكن لا يقال مثل هذا المعنى في رمضان . ففي رمضان كل المسلمين صائمون إلا أهل الأعذار .
والأدلة من القرآن ما يلي :
الدليل الأول :
قال تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (196) سورة البقرة
والشاهد قوله سبحانه : " ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ "
المراد به : من كان أهله خارج مكة , وهو ليس من أهلها كما نص عليه المفسرون انظر : تفسير ابن كثير : 1 / 307 , تفسير القرطبي 2/268 .
وجه الدلالة من الآية على ما أريد : أن الآية دلت على أن هناك غائبون عن المسجد الحرام ولم يحجوا , وهم أهلُ الحاجّ وذَوُوهُ , وحينئذ فالحج ليس واجبا على جميع الناس كل عام , بل هناك ناس يحجون , وهناك أناس يخلفونهم في أهليهم وديارهم .
الدليل الثاني :
قوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة
والشاهد هنا قوله تعالى : " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " .
وجه الدلالة : أن الآية فيها شرط , بأنّ ( منْ فرض فيهن الحج ) أي من عقد النية في الحج ودخل في النسك فعليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال .
هذا منطوق الآية .
ومفهومها : أن من لم يفرض الحج فليس عليه بأس من فعل شيء من ذلك .
ولكن هل هذا المفهوم صحيح ؟
الجواب : المفهوم صحيح من وجه , وغير صحيح من وجه .
فهو صحيح بأن هناك من لم يفرض الحج , وهذا مغزى الاستدلال من الآية هنا , حيث يدل هذا المفهوم على أن هناك من المسلمين من جلسوا في ديارهم ولم يفرضوا الحج لأن فرض الحج ليس واجبا على المسلمين كلهم في وقت واحد .
وصحيح أيضاً بأن غير الحاج ليس عليه أن يتجنب الرفث , لأن الرفث هنا هو الجِماع بقول كثير من المفسرين كما قال تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (187) سورة البقرة , والجماع وأمور النساء محرمة على الحاج .
وكذلك الجدال مباح في غير الحج , بدليل قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (125) سورة النحل . وأما المفهوم غير الصحيح فهو ما يتعلق بالفسوق , فالفسوق ليس مباحا في حال , لا على الحاج ولا على غير الحاج , وإنما جاء التنصيص عليه هنا لأهمية اجتنابه للحاج كما قال صلى الله عليه وسلم في حق الصائم : " فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب " وفي رواية : " ولا يجهل " متفق عليه . فنص على تحريم الصخب والجهل وهما بمعنى الغضب والصراخ المذموم , وهما مذمومان في كل وقت , ولكن نص عليهما في الصوم لعظيم شأنه .
الدليل الثالث:
قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران .
والشاهد هنا قوله تعالى : " وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ " .
وجه الاستشهاد من وجهين :
الوجه الأول : أن الصيغة صيغة أمر وإيجاب , والأمر حين يطلق فهو يدل على مرة واحدة فقط , فحين يقوم المكَلَّفُ بالمأمور به مرة واحدة فقد أجاب الطلب , وحقق المراد .
وهذه المسألة خلافية عند الأصوليين [ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 173 , المسودة في أصول الفقه لابن تيمية : 20 ].
الوجه الثاني ( أي وجه الاستدلال الثاني ) :
قوله : ( حِجُّ البيت ) قُرِئَ بوجهين : فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الحاء ( حِجّ ) وقرأ الباقون بالفتح ( حَجّ ) . ولم أجد القراء اختلفوا في لفظ الحج في القرآن إلا في هذه الآية فقط , واتفقوا على فتح الحاء في سائر القرآن حيثما ورد لفظ الحج .
ووجه الدلالة هنا موجود في قراءة الكسر ( حِجّ ) حيث نص أهل اللغة على أن المصدر الصحيح للفعل ( حَجَّ ) إنما هو الفتح ( حَجّاً )
وأشار سيبويه إلى أنه سُمِع الكسر في المصدر فقال : " حجّ حِجّاً مثل : ذَكرَ ذِكْراً " [ كتاب سيبويه : 4 / 10 ]
وقد وجدت علماء آخرين نصوا على أن اسم المرة من الحج يأتي بوجهين : ( حَجَّة ) و ( حِجَّة ) بفتح الحاء وكسرها [ نص على ذلك ابن خالويه في كتابه : ليس في كلام العرب : 35 , والجوهري في الصحاح : 1/ 304 ( حجج ) والفيروزبادي في القاموس المحيط ( حجج ) ]
فتقول : حَجَجْتُ حَجَّةً واحدة , وحِجَّةً واحدة .
س : ما علاقة هذا الكلام النحوي بمسألتنا ؟
الجواب : علاقته أن كلمة ( حِجّ ) في نظري أصلها : ( حِجَّة ) والتقدير : ولله على الناس حِجَّة البيت , فيكون المراد بها مرة واحد , وتحمل قراءة الفتح على قراءة الكسر , أي أنهما يراد بهما المرة الواحدة سواء قرأت بالفتح أو الكسر , لأن الخلاف لم يأت إلا هنا , وهو موضع الوجوب في القرآن . فدل على أنه أريد المرة الواحدة .
قد يسأل سائل ويقول : أين التاء في حجة ؟ الآية قالت : حِجّ البيت , ولم تقل : حجة البيت .
الجواب : التاء تكون محذوفة , وسهّل حذفها وجود الإضافة كما حذفة التاء من إقامة الصلاة في قوله تعالى : " { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ } (73) سورة الأنبياء وقوله تعالى : {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النــور وأصلها في الآيتين : وإقامة الصلاة , لأنه مصدر : أقام إقامة مثل : أجاب إجابة وأناب إنابة . وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .
ومن ذلك قول الشاعر :
إن الخليط أجد البين فانجردوا ,,, وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدوا
فقال : عِد الأمر , وأصلها : عدة الأمر , وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .
هذا مالدي حول هذا الموضوع , في محاولة لتدبر كتاب الله تعالى واستخراج مكنونات الفوائد منه , فما أصبت فمن الله وما أخطأت فمن نفسي والشيطان , وأستغفر الله عن الزلل والخطأ .
والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة الخامسة عشرة والأخيرة : البعد البلاغي في آخر ما نزل من القرآن
قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة
قال أهل العلم : إن هذه آخر ما نزل من القرآن , ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام [ انظر تفسير ابن كثير 2 / 20 ]
وقد نزلت هذه الآية في عرفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع يوم الجمعة كما في صحيح البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال ابن كثير - رحمه الله - حول هذه الآية : " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة , حيث أكمل تعالى لهم دينهم , فلا يحتاجون إلى دين غيره , ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه , ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء , وبعَثَهُ إلى الإنس والجن ... فلما أكمل لهم الدين , تمّت عليهم النعمة , ولهذا قال سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } أي , فارْضوه أنتمْ لأنفِسِكُمْ , فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه , وبعثَ به أفضل الرسل الكرام , وأنزل به أشرف كتبه .." تفسير ابن كثير 2 / 19 .
ولي معي هذه الآية وقفات :
الوقفة الأولى : أنها نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع , وهي الموقف العظيم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم , ووقف معه المسلمون في مشهد مهيب , خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها معالم الدين , ووضع الأسس العامة والخاصة , ولم يترك شيئاً إلا بينه عليه الصلاة والسلام بأبلغِ قول , وأفصح لسان .
فجاءت هذه الآية تتويجا لذلك الموقف العظيم , وأن الدين قد كَمُل في يوم اكتملت فيه بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم , واكتمل فيه حضور المسلمين , واكتمل فيه تعلق قلوبهم لله تعالى على صعيد عرفات .
فهو يوم الكمال في السموات , ويوم الكمال في الأرض , فيه كمل الدين , وفيه كمل القرآن , وفيه كملت النعمة فلله العظمة وحده , ولله الشكر وحده ,سبحانه تبارك وتعالى .
الوقفة الثانية : قوله : ( اليوم ) قال أهل النحو : إن ( أل ) في كلمة اليوم هنا , للعهد الحضوري , أي هذا اليوم الحاضر , ولعل التعريف هنا يعطي تعظيما وهيبة لقداسة هذا اليوم وعظمته , وهوما صرح أحد اليهود حين قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! قال: أيَّةُ آية ؟ قال) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً .( قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلموهو قائم بعرفة ، يوم جمعة) رواه البخاري ومسلم .
الوقفة الثالثة : قوله : أكملتُ لكم دينكم .
فقوله : ( أكملتُ ):فعل ماضٍ دال مسندٌ إلى الضمير العائد إلى الله تعالى , لبيان عظمة هذا الكمال , وأنه صادر من عند الله تعالى , وما أكمله الله فلن يتعرض له نقصان , وما أكمله الله فلن يحتاج إلى زيادة .
ثم قال : ( لكم ) وهذا خطاب للمسلمين جميعاً , أي أن هذا الكمال لكم أيها المسلمون , وليس لغيركم , فهل تبتغون كمالا من عند غير الله ؟
ثم قال : ( دينكم ) هذه الكلمة أتت لتبين موضع الكمال , وأنه في الدين , والدين يشمل القرآن والعبادات والأخلاق والفرائض والمعاملات وكل ما جاء من عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو من الدين .
وقد وصل إلى مرحلة الكمال الرباني الذي لا يعتريه نقص , ولا يفتقر إلى الزيادة .
وإضافة الدين إلى المخاطبين لكي يصبوا اهتمامهم له , وأن هذا الأمر إنما هو دينهم , وليس دين الله فقط .
وأي شرف وأي منزلة حين يكمل الله لك اعتقادك ودينك , ويعطيك الختم الإلهي الرباني الأبدي بأن دينك كامل غير منقوص فلا تضيعه .
الوقفة الرابعة : قوله " وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى "
فعطف على الكمال بلفظ الإتمام , والإكمال يكون للشيء الواحد حين يبلغ نهايته وغايته فيكون قد كمل , فأطلقه على الدين لأن الدين واحد ( إن الدين عند الله الإسلام )
وأما الإتمام فيكون للشيء المتعدد حين تكتمل جميع أنواعه فيكون إتماماً , ونعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى , فجاء لفظ الإتمام .
وقال : عليكم , ولم يقل ( لكم ) لثلاثة أمور :
الأمر الأول : ليخالف اللفظ الأول , فلا يكون هناك تكرار بلفظ ( لكم ) لأنه قال أولها : أكملت لكم دينكم .
الأمر الثاني : أن إتمام النعمة من الله تعني العلو والمنة , فهناك فوقية من المنعِمِ سبحانه على المنعَمِ عليه , فناسب لفظ ( عليكم ) .
الأمر الثالث : أن النعم تحتاج إلى شكر , والشكر تكليف على العبد , فناسب لفظ ( عليكم ) .
والمخاطبون بقوله : عليكم , هم المسلمون , وكفى لهم شرفاً أن يمتن الله عليهم بنعمه .
وقوله : ( نعمتي ) المفرد حين يضاف إلى الضمير فإنه يفيد العموم غالبا , ونعم الله متعددة , وقد أضيفت إلى الضمير , فتشمل جميع نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى .
وقد أضاف النعم إليه سبحانه , لأنه هو الـمُنعِمُ وحده جل جلاله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (53) سورة النحل .
وقد يكون أراد بالنعمة هنا نعمة إكمال الدين , وهي من أعظم النعم , وكل نعمة تحصل في الدنيا للمسلمين إنما هي متفرعة من هذه النعمة العظيمة .
ونلاحظ الفرق بين التعبيرين في الجملتين :
فالدين نسبه إلى المسلمين ؛ ليتحملوا الأمانة العظيمة , وأما النعمة فنسبها إليه سبحانه لا شريك له , لأن النعم منه وحده لا شريك له .
الوقفة الخامسة : قوله تعالى : " وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً "
لما بين سبحانه أنه أكمل الدين , وأتم النعمة , بين سبحانه ما هو الدين الذي كمله ؟
فبين هنا أنه الإسلام , ونسب الرضا إليه سبحانه , فإذا كان الله تعالى قد رضي لنا هذا الدين فأولى بالمسلمين أن يرضوه لأنفسهم , لأنه اختيار من لدن حكيم خبير أعلم بمصالحهم ومنافعهم .
وأي شرف للمسلم حين يعلن إسلامه , ويعتز به بأنه دين رضيه الله له , واختاره له ليتقرب به إليه , فهو الدين الأوحد عند الله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (19) سورة آل عمران , ولا يقبل الله من أحد دينا سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران .
وما دام أن الله نعالى قد رضيه لنا دينا , فهو أفضل دين وأعظمه كما قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (125) سورة النساء
وأتى بالجار والمجرور ( لكم ) ليبين أن هذا الدين مصلحة لكم , وفيه نفعكم في الدارين
وأصل التعبير : ورضيت الإسلام دينا لكم , فقدم الجار والمجرور لإرادة الاختصاص , أي لكم أيتها الأمة المحمدية , وليس لغيركم .
أو أن التقديم أفاد الاهتمام بالمخاطبين , ورفع مستوى التنبيه إلى أهمية هذا المرضي الذي سيأتي ذكره , وهو الإسلام .
فكأنه لما قال : ورضيت لكم .. تشرئب الأعناق لمعرفة ماذا رضي لنا ربنا ؟
فيأتي الجواب : الإسلام دينا .
فأي معانٍ سامية عظيمة حملتها هذه الجمل الثلاث التي نزلت يوم عرفة لتختم للمسلمين دينهم ؟! , ولتبين لهم أنه كامل إلى يوم القيامة فلا ابتداع , ولا نقصان .
فمن ابتدع ما ليس من الدين فقد استدرك على ربه سبحانه , ومن أنقص من الدين فقد اجترأ على دين الله , والموفق من اتبع ما أنزل إليه من ربه دون زيغ أو ضلالة .
والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
فرغت منه فجر يوم عرفة عام 1430
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
أي غُصْ في العلم واستخرج مكنوناته يا غوّاص .
فأمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – لم يجد أفضل من وصف الغوص كي يمنحه ابن عباس رض الله عنهما ذلكم الشاب الفتي الذي تفتحت لديه مواهب العلم والمعرفة .
وإنما كان طالب العلم مثل الغواص لأنه يقتحم المخاطر , ويعقد العزم على التعمق في أسرار المعرفة دون الاكتفاء بالأشياء السطحية الظاهرة , وهذا هو العلم الحقيقي النافع الذي ينفع صاحبه وقارئه .
ولعلمي بأن أخانا السر الكبير كبير الغواصين هنا في هذا المنتدى , ويحب الغوص في العلم كما يحبه في البحر , فإني أستأذنه بوضع هذه السلسلة المباركة من الغوص في المعارف والعلوم , وخاصة ما كان مرتبطاً بكتاب الله تعالى , وما يدور حول البحر وأسراره , وأتمنى من زملائي القراء الكرام أن يتحفوني بما عندهم من مشاركات أو ملحوظات أو اعتراضات بما يعود على الجميع بالفائدة العامة .
الحلقة الأولى : الغوص في القرآن .
جاء ذكر الغوص في القرآن في آيتين بلفظين مختلفين في سياق قصة واحدة , وهي قصة سليمان عليه السلام حينما امتنَّ الله عليه بتسخير الشياطين له :
قال تعالى : {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (82) سورة الأنبياء {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} (37) سورة ص
ففي الآية الأولى جاء لفظ الغوص بصيغة الفعل المضارع ( يغوصون ) وهذا يدل على الاستمرارية في العمل والدوام عليه .
وأما الآية الثانية فقد جاءت بصيغة المبالغة الدالة على المهنة والحرفة ( غوّاص ) بوزن ( فعّال , وهذه أيضا دالة على الاستمرارية في العمل والدوام عليه .
فما الذي نستنبطه من هذا التوافق الدلالي بين الصيغتين ؟
الذي يظهر لي والله أعلم أن الغوص من الأمور المحببة للنفس فمن استمرأ مهنة الغوص واعتاد عليها فإنه يسلك مسلك الاستمرارية والدوام , كما تفعل الشياطين بأمر سليمان التي سخرها ربنا جل وعلا لتستمر بهذا العمل .
وهناك أمر آخر وهو أن الغوص جاء منسوباً للشياطين , وهمْ خلق لهم قدرات عجيبة ركبها الله تعالى فيهم ( انظر الحيوان للجاحظ 6 / 265 ) وهذا يدل على أن الغوص من الأعمال الخطيرة التي لا يطيقها إلا الأشداء من الناس , وذلك أن سليمان وقومه مع ما أعطاهم الله من القوة والبأس إلا أنهم لم يستطيعوا الغوص فسخر الله له الشياطين كي تقوم بهذا العمل الشاق .
والعرب تضرب المثل بالشياطين في القوة والنفاذ , فيقولون للرجل القوي إنه شيطان
قال الجاحظ : " ربما قالوا ( ما فلانٌ إلا شيطانٌ ) على معنى الشهامة والنفاذ وأشباه ذلك " [ الحيوان 6 / 213 ] , وحين بالغوا في مدحِ أبي حنيفة النعمان قالوا بأنه شيطان خرج من البحر [ ثمار القلوب للثعالبي : 74 ]
.الحلقة الثانية : السمك والحوت في القرآن .السَّمَكُ : معروف , وهو الحيوان البحري , وقال في لسان العرب : السمك : الحوت من خلق الماء . واحدته : سَمَكَة
وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء مثل : بقر وبقرة , وشجر وشجرة .
والحوت : هو السمك , وقيل : ما عَظُمَ منه . ومعناه : الرّوَغانُ في الحركة , يقال : حاوتني فلان : أي راوَغَنِي .
ولذلك سمي السّمك ( حوتاً ) لأنه يروغ في حركته .
وهو مفرد وجمعه : أحْوات , وحِوَتة وحِيتَان .
انظر هذه المعاني في : لسان العرب ( سمك , حوت ) .
وحينئذ فالمعاجم جعلت الحوت والسمك شيئا واحداً , وبعضهم أشار إلى أن من الحوت نوع عظيم الخلق , وهو المعروف حاليا , حيث يفرق الناس بين الصغير والكبير , فيجعولن الصغير باختلاف درجاته سمكا , ويجعلون الكبير العظيم حوتاً .
والصواب أن الجميع يطلق عليه : حوت وسمك .
حتى صغار السمك تسمى أحواتاً .
ولو بحثنا في القرآن الكريم لوجدنا أنه استخدم لفظ الحوت ولم يستخدم لفظ ( السّمك ) فجاء ذكر الحوت في خمسة مواضع من القرآن .
اثنان منها يدلان على الحوت العظيم المعروف , وثلاثة مواضع تدل على السمك المعروف .
فالآيتان اللتان تدلان على الحوت ما جاء في قصة يونس عليه السلام , وهي قوله تعالى : {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (142) سورة الصافات , {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (48) سورة القلم
وأما المواضع التي تدل على السمك المعروف ففي قصة موسى مع غلامه : {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} (61) سورة الكهف , {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (63) سورة الكهف
وفي قصة بني إسرائيل الذين حرم عليهم صيد السبت , كما قال تعالى : {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (163) سورة الأعراف
ففي قصة يونس دليل على أن الحوت الذي التقمه هو الحوت الضخم الكبير , وهذا ظاهر .
أما في قصة موسى مع غلامه فقد كان معهما سمكة معروفة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة , والدليل : ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة موسى مع الخضر فقال : " تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل " والمكتل مثل الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا ( لسان العرب : كتل ) وخمسة عشر صاعا تزن قرابة خمسة وأربعين كيلو غرام .
ومن المعروف أن موسى وغلامه سيحملان في المكتل حوتا لن يستغرق حجمها حجم الزنبيل كله , فدل على أنها : سمكة معروفة قد تزن ( 30 ) كيلو تقريبا .
وأما قصة بني إسرائيل مع الصيد فلا شك أنهم كانوا يصيدون السمك , بدليل أنه قال في الآية : ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) ومعنى : شرعا : أي ظاهرة على الماء كثيرة [ تفسير البغوي : 2 / 162 ] وهذا الوصف ينطبق على السمك الصغار وليس الحوت العظيم .
ما أريد أن أصل إليه من خلال هذا التحليل : أن الحوت والسمك لفظان مترادفان , فالحوت يطلق على السمك الصغير والكبير , والسمك كذلك .
وما يظنه بعض الناس أن الحوت هو السمك العظيم الضخم فقط فهو ظن في غير محله .
بقي أن أشير إلى أن الحوت الضخم ورد بالقرآن بلفظ آخر , وهو لفظ ( النون ) وهو لفظ لا يطلق إلا على الحوت الكبير .
قال تعالى عن يونس عليه السلام : {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87) سورة الأنبياء
والله تعالى أعلم وأحكم .
الحلقة الثالثة : الفرق بين اليَمّ والبحر
جاء في لسان العرب أن اليم : هو البحر الملح , والنهر العذب , والدليل على ذلك أن أم موسى أمرت أن تلقيه في اليم وهو نهر النيل . [ لسان العرب : 12 / 647 ] .وجاء في تاج العروس :" اليم : البحر , وقال الأزهري : اسم اليم يطلق على ما كان ماؤه ملحاً زعاقاً , وعلى النهر الكبير العذب الماء وقد أمرت أم موسى حين ولدته وخافت عليه فرعونَ أن تجعله في تابوت ثم تقذفه في اليمّ وهو نهر النيل بمصر وماؤه عذب " انتهى من التاج . 9 / 114 ( يمم ) .وجاء استعماله في القرآن سبع مرات أربع منها في قصة غرق فرعون مع جنوده بعد أن أنجى الله موسى وقومه , واثنتان في قصة أم موسى حين وضعت رضيعها في التابوت فألقته في الماء كي ينجو من قتل فرعون , وموضع واحد في قصة السامري حين توعده موسى عليه السلام أن يلقي العجل في اليم .
وإليكم البيان :
1.وروده في قصة أم موسى حين ألقت ابنها الرضيع ( موسى ) في اليم , قال تعالى : {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (39) سورة طـه وقال سبحانه :{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصصواليَمّ هنا : هو نهر النيل باتفاق أهل العلم , انظر : تاريخ الطبري : 1/389 , تفسير ابن كثير : 3 / 198 , 502 .
وهو هنا لم يرد في هذه القصة إلا بلفظ اليم .
2. وروده في قصة موسى مع فرعون حين تجاوز البحر وقصة غرق فرعون , وقد جاءت الآيات فيه لفظ البحر ولفظ اليَمّ , وجاء لفظ اليم في هذه القصة في أربعة مواضع وهي كالتالي : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (136) سورة الأعراف {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (78) سورة طـه, {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (40) سورة القصص , {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} (40) سورة الذارياتواليم هنا : هو خليج السويس الذي يفصل بين مِصر وجزيرة سيناء , فقد خرج موسى ببني إسرائيل إلى جزيرة سيناء , وفيها حصلت القصص الطويلة مع بني إسرائيل وواعد الله موسى عند جبل الطور , وفيها حصل التيه لبني إسرائيل , قال ابن كثير عند شرحه لمعنى طور سيناء : " وطور سيناء هو طور سينين , وهو الجبل الذي كلّمَ الله عليه موسى من عمران عليه السلام " تفسير ابن كثير : 3 / 324 , وانظر معجم البلدان : 3 /300 .ولأن الخليج الذي عبره موسى كان جزءا من بحر العرب الكبير ( البحر الأحمر ) فقد جاءت بعض الآيات بلفظ البحر ومن ذلك قوله تعالى :{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (63) سورة الشعراء3.. وروده في قصة موسى مع السامري الذي صنع العجل ,{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (97) سورة طـه . ومن المعلوم أن بني إسرائيل عبدوا العجل بعد أن عبروا خليج السويس , وذلك في جزيرة سيناء , وهي التي حصل فيها التيه العظيم , وحصلت فيها حوادث جسيمة لموسى مع بني إسرائيل فعبدوا العجل , وأمرهم الله بقتل أنفسهم , وقصة الاستسقاء , وذهاب موسى للقاء ربه عند الطور , وكل هذه الحوادث جاءت مفصلة في سورة البقرة والأعراف وطه وغيرهما .إذن فعبادة العجل حصلت في جزيرة سيناء قبل دخولهم الأرض المقدسة وهي فلسطين , كما نفهم من سياق الآيات التالية : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (77) {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (78) {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (79) {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (80) {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (81) {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (82) {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى} (83) {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (84) {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (85){فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} (86) {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (87){فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (88) سورة طـه فنلحظ هنا أن عبادة العجل كانت في جزيرة سيناء .
فأين اليم الذي سيلقي فيه موسى العجل ؟الجواب ما جاء في سنن أبي حاتم من حديث رضي الله عنه أن موسى أخذ العجل فَبرده على شَطِّ نَهْرٍ , فلم يشرب أحدٌ من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفرّ وجهه " تفسير ابن كثير : 3 / 220 .وفي هذا الأثر دليل على أن المراد باليم هو النهر , ولعله نهر في جزيرة سيناء , ولو فرضنا أن الأثر ضعيف فإنه ليس حول موسى إلا خليجان : إما خليج السويس الذي عبره وهو أقرب إليه , والثاني : خليج العقبة .
من خلال هذا العرض تبين لي أن ما يلي :
1. أنّ اليَمّ يطلق على النهر العذب .
2. ويطلق أيضاً على البحر المتقارب ساحلاه , وهو ما يسمى بالخليج .
3. يجوز إطلاق لفظ البحر على الخليج , فكل يَمٍّ بحر , وليس كل بحرٍ يَمّ
4. أما البحر فهو معروف , والمعروف لا يعرّف .هذا ما لدي في هذا الموضوع وأرجو أن أكون أتيت ما يفيد القارئ الكريم , ومَنْ كانت لديه إضافة فليفدنا بها مشكورا , وأخص بهذا الحديث أخي العزيز ( السر الكبير ) الذي أشار بأن لديه ما يضيفه حول هذا الموضوع .
الحلقة الرابعة : الريح العاصف والقاصف
.جاء في لسان العرب :
عصفت الريح تعصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً , وهي ريحٌ عاصفٌ وعاصِفَة ... إذا اشتدت , وفي التنزيل " والعاصفات عصفاً " يعني الرياح , والريح تعصف ما مرت عليه من جَوَلان التراب تمضي به .. وريح عاصفة : شديدة الهبوب ... والمعصِفات : الرياح التي تثير السحاب والورق وعصْف الزرع .. وهي من العصف وهي السرعة يقولون : أعصفت الناقة في السير إذا أسرعت . انتهى من لسان العرب ( عصف ) 9 / 248 .وجاء في اللسان أيضاً :
القصْف هو الكسر , وقصف الشيء يقصِفه قصفاً أي كسره .وريحٌ قاصفٌ وقاصفة : شديدة تُكسِّرُ ما مرت به من الشجر وغيره . ( لسان العرب ( قصف ) 9 / 283 . جاءت الريح في البحر في القرآن الكريم بتعبيرين :
الأول :الريح العاصف وهي قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونسفبين سبحانه أن الريح العاصف هنا جاءت شديدة لتحرك السفينة وتسبب لها الاضطراب حتى هلع ركابها والتجؤوا إلى الله تعالى لينجيهم , ولذا جاء بعدها : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ } (23) سورة يونسوالعاصف هنا هي الريح شديدة السرعة .
وهي تكون في البر والبحر , فأما البحر فكالآية السابقة , وأما البر فكقوله تعالى : {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (18) سورة إبراهيموقد تكون الريح العاصف ريح خير وبركة كقوله تعالى عن ريح سليمان :
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (81) سورة الأنبياء , والدليل على أنها ريح خير وليست ريح عذاب هو قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} (36) سورة ص .الثاني : الريح القاصف , وهي ريح مفاجئة شديدة لا تبقي ولا تذر , وهي تكسر السفن وتكسر كل ما تواجهه , ولذا جاء التعبير القرآني عنها بالهلاك المحتوم {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (69) سورة الإسراء .فعبر عن الريح هنا بأنها قاصف مغرقة و هي ريح بحرية .
وقد جاء في لسان العرب كما سبق أنها قد تكون في البر فتقتلع الأشجار .
ولو تأملنا الكلام عن الريح القاصف لوجدنا أنه قال سبحانه : (قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ ) فكانت صفة القصف ليست للريح كلها وإنما لقطعة منها , وكأن القطعة الكبرى هي الريح العاصفة المذكورة في آية يونس ولذا قال سبحانه في سورة يونس : ( جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ )ولكم أن تتخيلوا أحبتي الكرام حين تهب الريح العاصفة الشديدة في البحر على السفن , فيأذن الله تعالى لقطعة من هذه الريح أن تكون أعنف وأشد وطأة فتأتي بطريقة مفاجئة شديدة فتحدث انقلاباً شديدا للفلك وغرقا هائلاً , وهذه الريح هي القاصفة .
ويدل على أن الريح القاصفة جزء من الريح العاصفة أن القرآن لم يذكر القاصفة إلا مرة واحدة في سورة الإسراء , في حين أنه كرر العاصفة في أكثر من آية , ليدل على أنها هي الريح الأصل , وهي الأم .
قد يقول قائل : كيف تكون الريح قطعاً , فجزء منها عاصف وجزء منها قاصف ؟
فالجواب على ذلك :
أن هذا بأمر الله تعالى , وهو القادر على تنوع الريح , وكما جعل الله تعالى الليل قطعاً فهو قادر على جعل الريح قطعاً وأجزاء كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (27) سورة يونسولنلحظْ الفرق في النطق بين العاصفة والقاصفة .
فهما متقاربان في اللفظ لا يفرق بينهما إلا الحرف الأول وهو فاء الكلمة .
( عصف ) ( قصف ) وحرف القاف حرف شديد قوي مفخم , ينطلق فيحدث صوتا انفجاريا في الفم , ويخرج الصوت معه أفخم ما كان .أما العين فهي صوت رخو رقيق وهو مع ذلك صوت مجهور قوي ولكنه ليس بقوة وفخامة القاف , فناسب مجيء الصوت القوي للحدث القوي وهو القصف , ومجي الصوت الأضعف للحدث الأضعف وهو العصف .وهذا يسمى في لغة العرب : مشابهة اللفظ للمعنى , ولابن جني كلام جميل ولطيف حول هذا الموضوع في كتاب الخصائص : باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني : 2 / 154 .
فليراجعه من أراد الاستفادة .
في ختام كلامي ألخص ما سبق :
1.أن الريح العاصف والريح القاصف يكونان في البر والبحر , وليس كما توهمه كثير من الناس أن العاصف في البر والقاصف في البحر .
2.أن الريح العاصف أوسع وأكبر من الريح القاصف , في حين أن الريح القاصف تكون سريعة ومفاجئة .
3.أن الريح العاصف قد تكون رحمة , أما القاصف فهي لا تكون إلا عذاباً لأنها تحدث غرقا في البحر ودماراً وانكساراً في البر .والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الحلقة الخامسة : صيد البر والبحر :قال الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96) سورة المائدة
لماذا حرم الله صيد البر على المحرم , وأجاز له صيد البحر ؟
بحثت عن العلة وراء الحكم السابق فلم أعثر على شيء بين , فحاولت الالتماس لعل الله أن يوفقني إليه , ووجدت أن العلة تدور حول ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الغالب على صيد البحر أن يكون لحاجة ماسة , فهو طعامُ أقْوامٍ وشُعُوب ولذلك قال الله تعالى ( متاعاً لكم وللسيارة ) , فهو متاع لمن يصطاده , أما صيد البر فالغالب فيه أن يكون للترفُّه والتَّنَعُّم , وزيادة في الاستمتاع , ولما كان الْمُحْرِمَ مأموراً بالخشوع والخضوع لله والابتعاد عن ملذات الدنيا من الطيب والنساء أُمِرَ أن يبتعد عن الترفه بالصيد .
الوجه الثاني : أنّ الْمُحْرِمَ في الغالب لا يكون لديه صيد البحر قريباً من متناولِ يديه , لأنه في جبال مكة القاحلة , فالامتحان فيه أقل , أما صيد البر فهو قريبٌ له وبين يديه , فحرِّم عليه القريب امتحاناً وابتلاء ليُعلمَ الصابر المطيع كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (94) سورة المائدة .
ولعلنا نلحظ هنا أن الله تعالى قال : " تناله أيديكم ورماحكم " وهذا يدل على أنه صيد بري , لأن صيد البحر لا يكون في متناول اليد والرماح , بل إن الرماح لا تستخدم في صيد البحر في الأصل .
الوجه الثالث : أنّ صيدَ البَحْرِ ليس فيه إراقة دم في الغالب حيث يتمُّ الصيد بالشبكات والسنارات , أما صيد البر فلا يتم إلا بإراقة الدم والقتل , ولذلك قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } (95) سورة المائدة .
وأما صيد البحر فليس فيه قتل ( في الغالب ) فأباحه .
الحلقة السادسة : الصيام والتقوى .
لما فرض الله الصوم على عباده بيّنَ لهم الحكمة الجليلة من هذه العبادة العظيمة فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة .
فبيّنَ هنا أن التقوى هي الحكمة العظيمة من الصوم , وكل الفوائد الجليلة المستمدة من الصوم إنما هي متفرعة عن التقوى , ولذلك جاء التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار والتجدد ( تتقون ) , فكأن المسلم إذا صام كل يوم , فإن التقوى تتجدد معه يومياً .
فما هي التقوى ؟ وكيف يكون الصيام جالباً للتقوى ؟
التقوى : هي اسمٌ مأخوذ من الفعل : وَقِي ثم دخلت عليه الزوائد فصار : اتقى يتَّقي تُقى وتَقِيَّةً وتُقاة بمعنى : الحذر . وأصل معنى التقوى : الوقاية والحذر من الشيء كما قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
أما المعنى الشرعي للتقوى فقد اختلف فيه بين أهل العلم بمعاني متقاربة تؤدي إلى غرض واحد , ولعل أقواها وأجودها وأوضحها ما ورد عن الحسن البصري رحمه الله : بأن التقوى :" أن تجعل بينك وبين الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه "([1] (http://www.mekshat.com/vb/#_ftn1)) .
كيف يكون الصيام جالباً للتقوى ؟
حينما نتأمل عبادة الصيام نجد أن لها حكما عظيمة كلها ترجع إلى معنى التقوى الواسع , ومن تلك الحكم التي تجلب التقوى([2] (http://www.mekshat.com/vb/#_ftn2)) :
1.أن الصوم عبادة يتقرب فيها العبد إلى ربه بامتثال أمره بترك محبوباته من طعام وشراب ونكاح . راجياً ثواب الله تعالى , فيظهر بذلك صدق إيمانه , وكمال عبوديته لله وقوةُ محبته له ورجائه ما عنده , فإن الإنسان لا يترك محبوباً له إلا لما هو أعظم عنده منه .
2.أن الصوم يدرب على مراقبة الله تعالى , فيترك الصائم ما تهواه نفسه , مع قدرته عليه , لعلمه باطلاع الله عليه , وهذا أساس التقوى .
3.أن الصوم يضيق مجاري الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم , والصوم يضعف نفوذه , وتقل منه المعاصي .
4.أن الإكثار من تناول الشهوات يستوجب الغفلة وقسوة القلب , والتخفيف منها يستوجب يقظة القلب والروح , فيكون الإنسان متصلاً بربه , منشغلاً بطاعته .
5.أن الصوم يمرن على ضبط النفس والسيطرة عليها , وإمساك زمامها عن الوقوع في المعاصي والشهوات المحرمة .
6.أن الصوم يكسر من حدة النفس وكبريائها , ويوجب الخضوع واللين .
7.أن الغني إذا ذاق ألم الجوع والظمأ عرف قدر نعمة الله عليه , فيستوجب زيادة في الحمد والشكر , ومواساة الفقراء , وهذا من التقوى .
8.أن الصائم تكثر طاعته غالبا من صيام وصدقة وقراءة قرآن , وهذه من خصال التقوى .
9.قلتُ : من أبرز العلاقة بين الصوم والتقوى أن الصوم يكون في رمضان , وشهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه القرآن كما قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (185) سورة البقرة , وكتاب الله تعالى جاء بالتقوى , وبيّنَ سبحانه أن القرآن فيه هدى للمتقين {الم , ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} سورة البقرة , وحينئذ فالصوم جالب للتقوى من خلال الإكثار من قراءة القرآن العظيم الذي أنزل في رمضان , وهو سبيل التقوى وعنوانها , كما قال سبحانه أيضاً : {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (113) سورة طـه , وقال سبحانه : {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (28) سورة الزمر .
فهل رأيتم مثل هذا التلازم العظيم ؟
القرآن سبب للتقوى , وأُنْزِلَ في شهر الصيام , والصيام سبب للتقوى . إذن فما أقوى العلاقة بين الصيام وقراءة القرآن ! وما أعظم أن يكثر الصائم من تلاوة كتاب الله تعالى علّه أن يظفر بالتقوى من جهتين :
من جهة الصيام , ومن جهة الكتاب العزيز , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
هذه أبرز مظاهر التقوى التي تُستجلب بالصوم , والحديث فيها يطول , ولكن كما قيل : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق .
فما أعظم حكمة الله تعالى وأبلغَها , وما أنفعَ شرائعَه للخلق وأصلحها .
____________________
([1]) تفسير ابن كثير : 1 / 58 .
([2]) انظر في هذه الحكم ( من 1-8 ): تفسير السعدي 1/162-163 , مجالس شهر رمضان لابن عثيمين : 63 – 66 .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة السابعة : تأملات في آيات .( 1 ) :
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
فإني أطرح بين أيدي القراء الكرام بعض التأملات في آيات القرآن الكريم , مما عنّ لي في هذا الشهر الكريم أو غيره , وقد أمرنا ربنا بتدبر الكتاب العزيز ليزداد إيماننا , ولنتذكر إن كنا من أصحاب العقول والألباب : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص .
التأمل الأول :
قال الله تعالى : {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (72) سورة النحل .
وقال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } (67) سورة العنكبوت .
إذا تأملنا الآيتين السابقتين وجدناهما ينتهيان بجملة متشابهة (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ).
ولكن بينهما فرق لطيف , وهو أن آية النحل فيها الضمير ( هم ) في حين أن آية العنكبوت ليس فيها الضمير .
فما السر يا ترى ؟
تأملت مليا في الآيتين لأعرف الفرق , فوجدت أن الآيتين تتحدثان عن نِعَمِ الله تعالى على الناس , ولأن أولى الناس بالخطاب هم العرب الذين نزل فيهم القرآن , وهم أول من أنكره وكفر به , فإن آية النحل تتحدث عن نِعَمٍ عامة يشترك فيها البشر كلهم , وهي نعمة الأزواج والأولاد والرزق من الطيبات , فجاء الضمير ( هم ) لإرادة الاختصاص بأنكم أيها المخاطبون أول من كفر بهذه النعم .
أما آية العنكبوت فتتحدث عن نعمة الحرم الآمن , وهي نعمة خاصة بالعرب , فلما جاء بيان إنكارهم لهذه النعمة لم يأت الضمير ( هم ) ؛ لأنه لا أحد يشاركهم في هذه النعمة , فلا مقام للاختصاص هنا .
والله تعالى أعلم .
التأمل الثاني :
قال تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (143) {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } (144) سورة البقرة .
تتحدث هذه الآيات عن القبلة , وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام .
وقد أثبت العلم الحديث أن الكعبة تمثل مركز الكرة الأرضية , أي مركز الوسط فيها , وقد جاء ذكر الوسطية هنا ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) , ولم يأت في موضع آخر من القرآن , وهو موضعٌ ذكرت فيه آيات القبلة والتوجه إليها , فكأن فيه إشارة إلى أن هذه الأمة وسط في العقيدة والشرائع والأخلاق , وكذلك المكان . فقبلة المسلمين وسط العالم أجمع .
فجاء ذكر الوسطية هنا لتدل على شمول الوسطية الحسية ( المكان ) والمعنوية ( الدين والشريعة ).
ويدل على وسطية المكان قوله تعالى في موضع آخر : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (92) سورة الأنعام , وقوله سبحانه : { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } (7) سورة الشورى .
فجعل الله تعالى أم القرى وسطا بين ما حولها , لأن القرى الأخرى إن كانت حول مكة فهي دائرة عليها , ومكة ستكون في الوسط . والله تعالى أعلم .
الحلقة الثامنة : تأملات في آيات ( 2 ) :
التأمل الثالث :
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} (21) سورة الزمر .وقال تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (20) سورة الحديد .حين نقرأ الآيتين نلحظ تشابهاً في وصف نبات الأرض بعد الغيث وذلك في قوله :
(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) ( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا )ولكن بينهما فرق لطيف , وهو أن آية الزمر قال فيها ( ثم يجعله ) وآية الحديد قال فيها ( ثم يكون ) فما السر في ذلك ؟الجواب – والله أعلم – أن الآية الأولى ( آية الزمر ) فيه الحديث عن قدرة الله تعالى على إنزال المطر , وتصريفه في الأرض , ولهذا قال : ( أنزل ) ( سَلَكَه ) ( يُخْرِجُ ) وكلها أفعال مسندةٌ إلى الله تعالى لبيان قدرته , فناسب أن يقول ( ثم يجعله ) استمراراً لإسناد الفعل إلى القادر جل وعلا .وأما آية الحديد , فالحديث عن تشبيه الدنيا بالغيث ونباته , والنبات هو الذي أعجب المزارعين , فناسب أن يسند الفعل إلى النبات بالكون العام ( ثم يكون ) أي النبات .التأمل الرابع : قال تعالى :
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ , أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ , لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ , أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ , أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ , لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } ( 63- 70) سورة الواقعة .نلحظ أن الله تعالى قال في الزرع : (لَجَعَلْنَاهُ ) بإدخال اللام , وقال في المطر والماء (جَعَلْنَاهُ ) بدون اللام . فما الفرق بين الموضعين ؟الجواب – الله أعلم – أن الزرع فيه بيان لعمل البشر فيه ( تحرثون , تزرعون ) فناسب أن تدخل اللام تقوية للجواب , لأن وقع فساد الزرع في نفوس المزارعين أشد وأقسى , لأنهم عملوه بأيدهم , فدخلت اللام لتبين التأكيد على قدرة الله تعالى على إفساده ولو أنه من صنعكم وتعبكم .أما المطر فليس للبشر أي تصرف فيه ؛ لأنه من عند الله تعالى أنزله وهيأه للناس وجعله عذبا صالحاً للشرب .
فقدرة الله تعالى على إفساد الغيث وتحويله إلى أجاج أبين وأوضح من قدرته على الزرع ( بالنسبة للمخاطبين ) , فلم تدخل اللام هنا , لعدم الحاجة إليها .
والله تعالى أعلم
الحلقة التاسعة : تأملات في آيات ( 3 )
التأمل الخامس :
قال تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} (80) {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (81) سورة الأعراف .
وقال تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} (54) {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (55) سورة النمل .
لو تأملنا هذين المقطعين من الآيات الكريمة لوجدنا أنها تتحدث عن خطاب لوط لقومه , ولكننا نلحظ في آية الأعراف أنه وصفهم بأنهم ( قوم مسرفون ) , وأما في سورة النمل , فقد وصفهم بقوله : (أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .
فلماذا قال في الأولى ( مسرفون ) وقال في الثانية : ( تجهلون ) ؟
الجواب والله أعلم :
أنه لما قال في الأعراف : (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ) ناسب أن يصفهم بالإسراف وتعدي الحدّ , لأن من يعمل عملاً سيئاً لم يُسبق إليه يكون عادة بسبب السَّرَف الذي يصيبه إلى أن يتجاوز المحدود والمعقول .
وأيُّ مجاوزة للمحدود والمعقول أعظم مما يفعله قوم لوط ؟ إذن فهو الإسْرَاف بعينه .
وأما في آية النمل فلم يذكر قبلها جملة ( ما سبقكم ... ) بل قال : ( وأنتم تبصرون )
ومَنْ يعمل عملاً يخالف الفطرة , وهو في كامل وعيه وبصيرته فهو الجاهل الأحمق .
ونلحظ أيضاً أنه قال في آية الأعراف ( مسرفون ) فعبر بالاسم , ولم يقل : تسرفون .
وأما في سورة النمل فعبَّر بالفعل المضارع ( تجهلون ) ولم يقل ( جاهلون ).
والعلة في ذلك والله أعلم أن الإسرَافَ – غالباً - طبعٌ في النفس لا يتغير , والاسم يدل على الثبات دائماً .
وأما الجهل فهو يزول مع العلم , فعبر بالفعل الدال على التجدد , لأن الجهل ليس ملازماً لهم , ولكنه متجدد معهم في كل فاحشة يعملونها , وكأن في التعبير بالفعل ( تجهلون ) دلالةً على أنهم يَتَقَصَّدُونَ الجهلَ والصَّدّ عن النصيحة والعلم , فيتجدد معهم الجهل كل مرة فناسب أن يأتي الفعل المضارع .
والله تعالى أعلم وأحكم .
الحلقة العاشرة : الكافر يسجد لله .
عندما كنت أقرأ من كتاب الله تعالى ووصلت إلى هذه الآية الكريمة من سورة الرعد {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*} (15) سورةالرعد استوقفتني كثيراً , وجلست أسأل نفسي :
هذه الآية تتحدث عن سجود جميع الخلائق للواحد القهار , فقوله ( من في السموات والأرض ) يشمل الجن والإنس والملائكة والجمادات , ويشمل المؤمن والكافر , والبر والفاجر , لأن ( مَنْ ) اسم موصول , وهو من ألفاظ العموم الذي يشمل جميع ما في صلته , وهذا السجود نوعان : سجودطوعي أي اختياري , وسجود كرهي أي غير اختياري ( طوعا وكرها ) , ونحن نرى الكافر لايسجد لله تعالى .
فكيف تقول الآية عنه إنه يسجد ؟ , وهل الكافر داخل في الآية فعلاً كما فهمته ؟
حينما تأملت الآية وجدت الجواب نعم , الكافر يسجد لله تعالى , ولكنه سجود كرهي وليس طوعياً , أي أنه يسجد سجوداً لا يثاب عليه , وسجوده يكون والله أعلم من حيث لا يشعر , وذلك أن جسده وأعضاء جسمه , وملايين الخلايا في جسده تسبح بحمد الله وهو لا يشعر , ومصداق ذلك قوله تعالى : {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء .
وسجود الكافر الكرهي لا يلزم أن يكون سجوداً حسياً بحيث يحني جسده لله تعالى , بل هو تسبيح الأعضاء لله تعالى , وإخباتها لأمره , وهذا سجود .
أما المؤمن فهو يسجد النوعين السجود الطوعي , فيسجد لله بطوعه واختياره سجوداً حسياً يثاب عليه , ويسجد لله كرهاً بغير اختياره , وذلك حينما تسبح أعضاؤه بحمد الله تعالى وهو لا يشعر , وقد يثاب المؤمن على هذا النوع من السجود إذا أخلص النية لله تعالى وخاصة حين النوم , إذا نوى بنومه التقوي على الطاعة , فتظل أعضاؤه تسبح بحمد الله وهو نائم , وحسناته مكتوبة عند من لا تخفى عليه خافية سبحانه .
فسبحان من أخبت الخلق لأمره , وسبحان من خضعت لعظمته الرقاب , وصدق الله حيث يقول :{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران .
هذا ما فهمته من معنى الآية وحينما رجعت إلى التفاسير وجدت فيها ما يؤيد فهمي بحمد الله , فقد ذكر القرطبي في تفسيره عدة أقوال لأهل العلم في تفسير هذه الآية , منها أن المؤمن يسجد طوعاً , والكافر يسجد كرهاً بالسيف , ومنها أن في الآية حذفاً أي وبعض من في الأرض , ولا يخفى ما في هذين القولين من ضعف , أما الذي رجحه القرطبي فهو " أن المؤمن يسجد ببدنه طوعاً , وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق , يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع " ا.هـ
والمعنى : أن الكافر يسجد سجوداً لا يشعر به , وإنما لحاجة بدنه وجسمه إلى خالقه . والله أعلم .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif الحلقة الحادية عشرة : غيض الماء وغيض الأرحام ( المعنى والتناسب ) :
قال الله تعالى : " {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود
وقال سبحانه : {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (8) سورة الرعد
ذكر في الآيتين الكريمتين ( غيض الماء ) ( تغيض الأرحام ) فما المعنى ؟ وهل بينهما علاقة ؟
الجواب :
وغيض الماء :
غاض الماءُ يَغيضُ غيضاً أي : نقص ونضَب وقلَّ , وغار في الأرض .
وتغيض الأرحام : قال الزجاج : معناه يعلم ما نقص الحمل عن تسعة أشهر وما زاد على التسعة .وقيل : ما نقص عن أن يتم حتى يموت , وما زاد حتى يتم الحمل .
[ لسان العرب : 7/201]
وقد ذكر القرطبي عدة أقوال في معنى ( غيض الأرحام ) كلُّها ترجع إلى معنى النقص :
قال ابن عباسٍ و قتادة : المعنى ما تُسْقِط قبل التسعة أشهر وما تزداد فوق التسعة .
وقال مجاهد : إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها , فإن زادت على التسعة كان تماماً لما نقص .
وروي عن مجاهد أيضاً : الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم , والزيادة ما تزداد منه .
وقيل : الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد , كنقصان إصبَعٍ أو غيرها , وزيادة أصبعٍ أو غيرها .
وقيل : الغيض انقطاع دم الحيض أثناء الحمل , وما تزداد : هو دم النفاس بعد الوضع .
[ الجامع لأحكام القرآن : 9/188 ]
ولا شك أن كل ما ذكر محتمل لمعنى غيض الأرحام , ولا منافاة بينها , وذلك من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد .
وأضاف الزمخشري أن غيض الأرحام هو أن يكون فيها ولد واحد فقط , وزيادتها أن يكون فيها أكثر من ولد .
فالخلاصة أن النقص والزيادة في الرحم أما راجعة للمدة , أو عدد الولد , أو جسم الجنين فقد يكون ناقصا وقد يكون تاما مزيدا .
[ الكشاف : 2/ 515 ] .
قال أبوسليمان : وقد يكون للعلم الحديث اكتشافات في معنى زيادة الأرحام ونقصانها غير ما ذكر ولا سيما أن قوله وما تغيض الأرحام يحتمل وجهين : إما أن يكون فعلاً لازماً , أي أن الرحم غاضت ونقصت أو ازدادت , وكأن في هذا مجازاً عقلياً والله أعلم , أي غاضت الرحم بما فيها , وازدات بما فيها . كما تقول : فاض الوادي أو نقص , والوادي لا يزيد ولا ينقص لأنه مَجْرى , وإنما الذي يزيد وينقص هو الماء الذي يجري فيه . وقد يفسر لنا العلم الحديث غيض الرحم دون الحاجة إلى اللجوء للمجاز .
وإما أن كان فعلاً متعدياً أي ما تنقصه الأرحام فهذا ظاهر , وجميع التفاسير السابقة راجعة إلى هذا المعنى .
والله تعالى أعلم وأحكم .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة الثانية عشرة : الفرق بين موضعين عن غرق قوم موسى وقوم نوح عليهما السلام :
قال الله تعالى حكاية عن آل فرعون بعدما نجى الله موسى ومن معه في البحر :
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ , وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (66) سورة الشعراء
ثم قال عن نوح عليه السلام في السورة نفسها :
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} (120) سورة الشعراء .
فنلحظ أنه في قصة موسى قال : ثم أغرقنا الآخرين , وأما في قصة نوح فقال : ثم أغرقنا بعدُ الباقين .
فلماذا اختلف التعبير ؟
الجواب والله أعلم :
أن قصة موسى كانت بين طرفين اثنين : موسى وبني إسرائيل من جهة , وفرعون وجنوده من جهة أخرى فإذا أنجى الله فئة معينة فقد غرقت الفئة الأخرى , فلذلك قال سبحانه : أغرقنا الآخرين .
وأما في قصة نوح فالصراع بين نوح ومن آمن معه من جهة ( وما آمن معه إلا قليل ) , وبين باقي سكان المعمورة من جهة أخرى , لأنه ليس على وجه الأرض سكان آخرون غير قوم نوح كما نص عليه كثير من المفسرين والمؤرخين , وكما هو ظاهر القرآن الكريم كما سأبينه في موضوع خاص إن شاء الله .
فلما كان الناجون هم أصحاب الفلك بين سبحانه أن كل من بقي ولم يركب فهو من الهالكين و فذلك قال سبحانه : ( ثم أغرقنا بعد الباقين ) أي أن من بقي على وجه الأرض ولم يركب الفلك فإنه كان من المغرقين الهالكين .
قد يقول قائل : لقد قال الله تعالى في سورة الصافات عن نوح وقومه :
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (79) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (80) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (81) {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (82) سورة الصافات
فقال هنا : ثم أغرقنا الآخرين .
أي كرر ما قاله عن موسى وقومه , وهذا يخالف جوابنا عن نهاية قوم نوح في سورة الشعراء ؟
والجواب :
أنه في سورة الصافات جاء بيان من نجا قبل ذلك فقال سبحانه : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ , وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ , وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ , وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ , سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ , إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ , إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ , ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} (82) سورة الصافات.
فنلحظ من سياق الآيات أن الله تعالى بين أنه جعل ذرية نوح هم الباقين , فحينئذ من باب مفهوم المخالفة أن غير ذريته لم يبقوا , فكان التعبير العام في آخر القصة : " ثم أغرقنا الآخرين " .
وأما في سورة الشعراء فلم يرد ذكر لبقاء ذرية نوح عليه السلام .
والله تعالى أعلم وأحكم .
لحلقة الثالثة عشرة : وصف الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام .
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } (77) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (78) {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } (79) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (80) {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (81) {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } (82) سورة الشعراء .
هذه الآيات تتحدث عن صفات لله تعالى رتبها إبراهيم - عليه السلام – ترتيباً عجيباً وهي كالتالي :
1.الخلق .
2.الهداية .
3.الإطعام .
4.السقاية .
5.الشفاء من الأمراض .
6.الإماتة .
7.الإحياء .
8.مغفرة الخطايا يوم القيامة .
وهذه الأمور والصفات مرتبة ترتيبا عظيما بحسب زمن وجودها للإنسان , فأول ما يكون الإنسان عدماً ثم يُخلَق , وحين يخرج للدنيا يحتاج إلى الهداية كما قال تعالى : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50) سورة طـه.
ويحتاج للطعام والشراب والدواء , ثم يموت فيبعثه الله تعالى , ثم يحتاج إلى المغفرة يوم القيامة .
وقوله (فَهُوَ يَهْدِينِ , وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ , وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) فيها عدة فوائد :
1.أن هذه الصفات الأربع هي من أعظم نعم الله على ابن آدم ( الهداية , والإطعام , السقاية , الدواء ) فجميع نعم الدنيا تدور حول هذه الأربع .
2.قدم الإطعام على السقاية , لأن الإنسان يحتاج للماء – غالباً – بعد الطعام , فلو لم يَطعَمْ لم يظمأ .
3.ذكر المرض بعد الطعام والشراب إشارة إلى الأمراض غالباً ناتجةٌ عن هذين الأمرين ( المطعوم والمشروب ) .
4.نسب الهداية والإطعام والسقاية والشفاء إلى الله تعالى , وأما المرض فنسبه إلى نفسه فقال ( مرضتُ ) ولم يقل أمرضني , والْمُمْرِضُ والشافي هو الله تعالى كما قال تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } (17) سورة الأنعام
. والعلة في أنه نسب المرض إلى نفسه ولم ينسبه إلى الله ما يلي :
1· أن المقام مقام ثناء على الله تعالى , وبيان أحقيته بالألوهية , وأنه يستحق أن يعبد وحده لا شريك له , فناسب حينئذ أن يتأدب مع الله بعدم نسبة الإمراض إليه , بل نسب أمور الخير إلى الله تعالى وهي الهداية والإطعام والسقاية والشفاء , وأما المرض فلأنه في ظاهره بلاء وشر فلم ينسبه إلى الله , ونظير هذا قوله تعالى : {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (36) سورة الروم , وقوله سبحانه : {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (10) سورة الجن .
2 · أن المرض غالبا يأتي نتيجة لتصرف الإنسان نفسه إما بسوء تغذية , وإما بعدم وقاية , لأن الله تعالى خلق الكون في أحسن تقويم , وما ينتج من أمراض ومشاكل صحية إنما هو بسبب إفساد بني آدم في الأرض والبيئة كما قال تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم .
وقوله سبحانه : ( يميتني ثم يحيين ) لاحِظوا مجيء حرف العطف ( ثم ) الفاصل بين الموت والحياة الآخرة , وهو يدل على الزمن المتراخي , لأن البعث لا يكون بعد الموت مباشرة , في حين أن قوله ( يطعمني ويسقين ) جاء بحرف الواو الدالة على اشتراك الحدثين في وقت واحد , لأن الإنسان يحتاج للطعام والشراب في وقت واحد .
وقوله سبحانه : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } : جاء بالفعل المضارع ( أطمع ) للدلالة على تجدد الطمع والرجاء عند إبراهيم لأن المضارع يدل على التجدد والحالية , فهو يطمع ويرجو في كل حال .
ويدل على ان الطمع محبوب إذا كنت تطمع فيما عند الله تعالى , وليس فيما عند الخلق كما قال تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} ( 56) سورة الأعراف , وقال سبحانه : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (16) سورة السجدة .
وقوله ( يوم الدين ) : جاء بهذا الاسم لمناسبة ما قبله , لأنه لما ذكر نعم الله عليه , جاء بالاسم الدال على المجازاة والمحاسبة , وهو يوم الدين , أي يوم المداينة والحساب , وكلٌّ يدان بعلمه , نسأل الله الفوز والنجاة .
والله تعالى أعلم .
الحلقة الرابعة عشرة : هل ورد الأمر بالحج مرة واحدة في القرآن الكريم ؟؟
من المعلوم من الدين بالضرورة أن الحج فريضة على المسلم المستطيع – ذكرا كان أو أنثى - مرة واحدة في حياته , وما سوى ذلك فهو تطوع , ويدل على ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : " الحج مرة, فمَنْ زَادَ فهو تطوع " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بسند صحيح .
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ياأيّها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسولالله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم "رواه مسلم .
ولكني أردت استنباط هذا المعنى من القرآن الكريم , فتأملت بعض الآيات فوجدت فيها دلالة خفية على أن الحج ليس واجبا على جميع الناس وقتاً واحدا كسائر الفرائض كالصلاة والصوم .
بل يحج أناس هذا العام , ثم يحج غيرهم العام القابل , وهذا معناه أن الحج ليس فرضا على مُكَلَّفٍ إلا مرةً واحدةً في حياته , لكي يفسح المجال لغيره ليحج في عام قادم .
وهكذا ينقسم المسلمون وقت الحج إلى حجاج , وغير حجاج . ولكن لا يقال مثل هذا المعنى في رمضان . ففي رمضان كل المسلمين صائمون إلا أهل الأعذار .
والأدلة من القرآن ما يلي :
الدليل الأول :
قال تعالى : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (196) سورة البقرة
والشاهد قوله سبحانه : " ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ "
المراد به : من كان أهله خارج مكة , وهو ليس من أهلها كما نص عليه المفسرون انظر : تفسير ابن كثير : 1 / 307 , تفسير القرطبي 2/268 .
وجه الدلالة من الآية على ما أريد : أن الآية دلت على أن هناك غائبون عن المسجد الحرام ولم يحجوا , وهم أهلُ الحاجّ وذَوُوهُ , وحينئذ فالحج ليس واجبا على جميع الناس كل عام , بل هناك ناس يحجون , وهناك أناس يخلفونهم في أهليهم وديارهم .
الدليل الثاني :
قوله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة
والشاهد هنا قوله تعالى : " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ " .
وجه الدلالة : أن الآية فيها شرط , بأنّ ( منْ فرض فيهن الحج ) أي من عقد النية في الحج ودخل في النسك فعليه أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال .
هذا منطوق الآية .
ومفهومها : أن من لم يفرض الحج فليس عليه بأس من فعل شيء من ذلك .
ولكن هل هذا المفهوم صحيح ؟
الجواب : المفهوم صحيح من وجه , وغير صحيح من وجه .
فهو صحيح بأن هناك من لم يفرض الحج , وهذا مغزى الاستدلال من الآية هنا , حيث يدل هذا المفهوم على أن هناك من المسلمين من جلسوا في ديارهم ولم يفرضوا الحج لأن فرض الحج ليس واجبا على المسلمين كلهم في وقت واحد .
وصحيح أيضاً بأن غير الحاج ليس عليه أن يتجنب الرفث , لأن الرفث هنا هو الجِماع بقول كثير من المفسرين كما قال تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (187) سورة البقرة , والجماع وأمور النساء محرمة على الحاج .
وكذلك الجدال مباح في غير الحج , بدليل قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (125) سورة النحل . وأما المفهوم غير الصحيح فهو ما يتعلق بالفسوق , فالفسوق ليس مباحا في حال , لا على الحاج ولا على غير الحاج , وإنما جاء التنصيص عليه هنا لأهمية اجتنابه للحاج كما قال صلى الله عليه وسلم في حق الصائم : " فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب " وفي رواية : " ولا يجهل " متفق عليه . فنص على تحريم الصخب والجهل وهما بمعنى الغضب والصراخ المذموم , وهما مذمومان في كل وقت , ولكن نص عليهما في الصوم لعظيم شأنه .
الدليل الثالث:
قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران .
والشاهد هنا قوله تعالى : " وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ " .
وجه الاستشهاد من وجهين :
الوجه الأول : أن الصيغة صيغة أمر وإيجاب , والأمر حين يطلق فهو يدل على مرة واحدة فقط , فحين يقوم المكَلَّفُ بالمأمور به مرة واحدة فقد أجاب الطلب , وحقق المراد .
وهذه المسألة خلافية عند الأصوليين [ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 173 , المسودة في أصول الفقه لابن تيمية : 20 ].
الوجه الثاني ( أي وجه الاستدلال الثاني ) :
قوله : ( حِجُّ البيت ) قُرِئَ بوجهين : فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الحاء ( حِجّ ) وقرأ الباقون بالفتح ( حَجّ ) . ولم أجد القراء اختلفوا في لفظ الحج في القرآن إلا في هذه الآية فقط , واتفقوا على فتح الحاء في سائر القرآن حيثما ورد لفظ الحج .
ووجه الدلالة هنا موجود في قراءة الكسر ( حِجّ ) حيث نص أهل اللغة على أن المصدر الصحيح للفعل ( حَجَّ ) إنما هو الفتح ( حَجّاً )
وأشار سيبويه إلى أنه سُمِع الكسر في المصدر فقال : " حجّ حِجّاً مثل : ذَكرَ ذِكْراً " [ كتاب سيبويه : 4 / 10 ]
وقد وجدت علماء آخرين نصوا على أن اسم المرة من الحج يأتي بوجهين : ( حَجَّة ) و ( حِجَّة ) بفتح الحاء وكسرها [ نص على ذلك ابن خالويه في كتابه : ليس في كلام العرب : 35 , والجوهري في الصحاح : 1/ 304 ( حجج ) والفيروزبادي في القاموس المحيط ( حجج ) ]
فتقول : حَجَجْتُ حَجَّةً واحدة , وحِجَّةً واحدة .
س : ما علاقة هذا الكلام النحوي بمسألتنا ؟
الجواب : علاقته أن كلمة ( حِجّ ) في نظري أصلها : ( حِجَّة ) والتقدير : ولله على الناس حِجَّة البيت , فيكون المراد بها مرة واحد , وتحمل قراءة الفتح على قراءة الكسر , أي أنهما يراد بهما المرة الواحدة سواء قرأت بالفتح أو الكسر , لأن الخلاف لم يأت إلا هنا , وهو موضع الوجوب في القرآن . فدل على أنه أريد المرة الواحدة .
قد يسأل سائل ويقول : أين التاء في حجة ؟ الآية قالت : حِجّ البيت , ولم تقل : حجة البيت .
الجواب : التاء تكون محذوفة , وسهّل حذفها وجود الإضافة كما حذفة التاء من إقامة الصلاة في قوله تعالى : " { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ } (73) سورة الأنبياء وقوله تعالى : {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النــور وأصلها في الآيتين : وإقامة الصلاة , لأنه مصدر : أقام إقامة مثل : أجاب إجابة وأناب إنابة . وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .
ومن ذلك قول الشاعر :
إن الخليط أجد البين فانجردوا ,,, وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدوا
فقال : عِد الأمر , وأصلها : عدة الأمر , وسهل حذف التاء لوجود الإضافة .
هذا مالدي حول هذا الموضوع , في محاولة لتدبر كتاب الله تعالى واستخراج مكنونات الفوائد منه , فما أصبت فمن الله وما أخطأت فمن نفسي والشيطان , وأستغفر الله عن الزلل والخطأ .
والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
الحلقة الخامسة عشرة والأخيرة : البعد البلاغي في آخر ما نزل من القرآن
قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة
قال أهل العلم : إن هذه آخر ما نزل من القرآن , ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام [ انظر تفسير ابن كثير 2 / 20 ]
وقد نزلت هذه الآية في عرفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع يوم الجمعة كما في صحيح البخاري وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال ابن كثير - رحمه الله - حول هذه الآية : " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة , حيث أكمل تعالى لهم دينهم , فلا يحتاجون إلى دين غيره , ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه , ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء , وبعَثَهُ إلى الإنس والجن ... فلما أكمل لهم الدين , تمّت عليهم النعمة , ولهذا قال سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } أي , فارْضوه أنتمْ لأنفِسِكُمْ , فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه , وبعثَ به أفضل الرسل الكرام , وأنزل به أشرف كتبه .." تفسير ابن كثير 2 / 19 .
ولي معي هذه الآية وقفات :
الوقفة الأولى : أنها نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع , وهي الموقف العظيم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم , ووقف معه المسلمون في مشهد مهيب , خطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها معالم الدين , ووضع الأسس العامة والخاصة , ولم يترك شيئاً إلا بينه عليه الصلاة والسلام بأبلغِ قول , وأفصح لسان .
فجاءت هذه الآية تتويجا لذلك الموقف العظيم , وأن الدين قد كَمُل في يوم اكتملت فيه بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم , واكتمل فيه حضور المسلمين , واكتمل فيه تعلق قلوبهم لله تعالى على صعيد عرفات .
فهو يوم الكمال في السموات , ويوم الكمال في الأرض , فيه كمل الدين , وفيه كمل القرآن , وفيه كملت النعمة فلله العظمة وحده , ولله الشكر وحده ,سبحانه تبارك وتعالى .
الوقفة الثانية : قوله : ( اليوم ) قال أهل النحو : إن ( أل ) في كلمة اليوم هنا , للعهد الحضوري , أي هذا اليوم الحاضر , ولعل التعريف هنا يعطي تعظيما وهيبة لقداسة هذا اليوم وعظمته , وهوما صرح أحد اليهود حين قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! قال: أيَّةُ آية ؟ قال) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً .( قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلموهو قائم بعرفة ، يوم جمعة) رواه البخاري ومسلم .
الوقفة الثالثة : قوله : أكملتُ لكم دينكم .
فقوله : ( أكملتُ ):فعل ماضٍ دال مسندٌ إلى الضمير العائد إلى الله تعالى , لبيان عظمة هذا الكمال , وأنه صادر من عند الله تعالى , وما أكمله الله فلن يتعرض له نقصان , وما أكمله الله فلن يحتاج إلى زيادة .
ثم قال : ( لكم ) وهذا خطاب للمسلمين جميعاً , أي أن هذا الكمال لكم أيها المسلمون , وليس لغيركم , فهل تبتغون كمالا من عند غير الله ؟
ثم قال : ( دينكم ) هذه الكلمة أتت لتبين موضع الكمال , وأنه في الدين , والدين يشمل القرآن والعبادات والأخلاق والفرائض والمعاملات وكل ما جاء من عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو من الدين .
وقد وصل إلى مرحلة الكمال الرباني الذي لا يعتريه نقص , ولا يفتقر إلى الزيادة .
وإضافة الدين إلى المخاطبين لكي يصبوا اهتمامهم له , وأن هذا الأمر إنما هو دينهم , وليس دين الله فقط .
وأي شرف وأي منزلة حين يكمل الله لك اعتقادك ودينك , ويعطيك الختم الإلهي الرباني الأبدي بأن دينك كامل غير منقوص فلا تضيعه .
الوقفة الرابعة : قوله " وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى "
فعطف على الكمال بلفظ الإتمام , والإكمال يكون للشيء الواحد حين يبلغ نهايته وغايته فيكون قد كمل , فأطلقه على الدين لأن الدين واحد ( إن الدين عند الله الإسلام )
وأما الإتمام فيكون للشيء المتعدد حين تكتمل جميع أنواعه فيكون إتماماً , ونعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى , فجاء لفظ الإتمام .
وقال : عليكم , ولم يقل ( لكم ) لثلاثة أمور :
الأمر الأول : ليخالف اللفظ الأول , فلا يكون هناك تكرار بلفظ ( لكم ) لأنه قال أولها : أكملت لكم دينكم .
الأمر الثاني : أن إتمام النعمة من الله تعني العلو والمنة , فهناك فوقية من المنعِمِ سبحانه على المنعَمِ عليه , فناسب لفظ ( عليكم ) .
الأمر الثالث : أن النعم تحتاج إلى شكر , والشكر تكليف على العبد , فناسب لفظ ( عليكم ) .
والمخاطبون بقوله : عليكم , هم المسلمون , وكفى لهم شرفاً أن يمتن الله عليهم بنعمه .
وقوله : ( نعمتي ) المفرد حين يضاف إلى الضمير فإنه يفيد العموم غالبا , ونعم الله متعددة , وقد أضيفت إلى الضمير , فتشمل جميع نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى .
وقد أضاف النعم إليه سبحانه , لأنه هو الـمُنعِمُ وحده جل جلاله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (53) سورة النحل .
وقد يكون أراد بالنعمة هنا نعمة إكمال الدين , وهي من أعظم النعم , وكل نعمة تحصل في الدنيا للمسلمين إنما هي متفرعة من هذه النعمة العظيمة .
ونلاحظ الفرق بين التعبيرين في الجملتين :
فالدين نسبه إلى المسلمين ؛ ليتحملوا الأمانة العظيمة , وأما النعمة فنسبها إليه سبحانه لا شريك له , لأن النعم منه وحده لا شريك له .
الوقفة الخامسة : قوله تعالى : " وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًاً "
لما بين سبحانه أنه أكمل الدين , وأتم النعمة , بين سبحانه ما هو الدين الذي كمله ؟
فبين هنا أنه الإسلام , ونسب الرضا إليه سبحانه , فإذا كان الله تعالى قد رضي لنا هذا الدين فأولى بالمسلمين أن يرضوه لأنفسهم , لأنه اختيار من لدن حكيم خبير أعلم بمصالحهم ومنافعهم .
وأي شرف للمسلم حين يعلن إسلامه , ويعتز به بأنه دين رضيه الله له , واختاره له ليتقرب به إليه , فهو الدين الأوحد عند الله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } (19) سورة آل عمران , ولا يقبل الله من أحد دينا سواه {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران .
وما دام أن الله نعالى قد رضيه لنا دينا , فهو أفضل دين وأعظمه كما قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (125) سورة النساء
وأتى بالجار والمجرور ( لكم ) ليبين أن هذا الدين مصلحة لكم , وفيه نفعكم في الدارين
وأصل التعبير : ورضيت الإسلام دينا لكم , فقدم الجار والمجرور لإرادة الاختصاص , أي لكم أيتها الأمة المحمدية , وليس لغيركم .
أو أن التقديم أفاد الاهتمام بالمخاطبين , ورفع مستوى التنبيه إلى أهمية هذا المرضي الذي سيأتي ذكره , وهو الإسلام .
فكأنه لما قال : ورضيت لكم .. تشرئب الأعناق لمعرفة ماذا رضي لنا ربنا ؟
فيأتي الجواب : الإسلام دينا .
فأي معانٍ سامية عظيمة حملتها هذه الجمل الثلاث التي نزلت يوم عرفة لتختم للمسلمين دينهم ؟! , ولتبين لهم أنه كامل إلى يوم القيامة فلا ابتداع , ولا نقصان .
فمن ابتدع ما ليس من الدين فقد استدرك على ربه سبحانه , ومن أنقص من الدين فقد اجترأ على دين الله , والموفق من اتبع ما أنزل إليه من ربه دون زيغ أو ضلالة .
والله تعالى أعلم , وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .
فرغت منه فجر يوم عرفة عام 1430
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif
http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif http://www.mekshat.com/vb/images/misc/progress.gif