السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أردت ان أشارك مرتادي المكشات بهذا الموضوع المميز واتمنى ان ينال استحسانكم ورضاكم
================================================== ===

الجرهاء "القريّة" مدينة الذهب العربية المفقودة

قد يكون من الوهلة الأولى لقراءة عنوان هذا التحقيق أن يتبادر للذهن بأن هذا الموضوع هو أحد أساطير التراث القديم أو من نسيج خيال المؤرخين والقاصين ....... ولكن الحقيقة أكثر من ذلك بكثير ....... إنها الجرهاء المدينة العربية العتيدة التي ذاع صيتها في حوالي القرن الثالث قبل الميلاد . و تًُصنف الجرهاء على أنها واحدة من عدة مدن مفقودة في جزيرة العرب كا أرم وعُبار والعثورعليها أو على معالمها لا يزال طموح المهتمين والباحثين والمؤرخين لما ذكر ونشرعنها من مواضيع مشوقة بأقلام الكتاب الكلاسكيين

في زيارات استطلاعيه متكررة قمت بها بتقصي ومعرفة حقيقة حضارة الجرهاء التي سادت في القرن الثالث قبل الميلاد على منطقة الخليج العربي , فبعد الإطلاع والبحث في النصوص التاريخية والكتابات التي اهتمت وتحدثت عن منطقة الجرهاء وحضارتها بدأت بالتحقيق في هذه القضية، وعلى أغلب الظن بأن حضارة الجرهاء قد وجدت وسادت مابين شاطئ نصف القمر وميناء العقير جنوباَ . أن مدينة الجرهاء كان لها أهمية استراتيجية قصوى كمحطة تفريغ و إعادة شحن للبضائع إلى بلاد الرافدين ومدن أسيا الصغرى

منذ حوالي 5 سنوات جذب انتباهي بعض النصوص التاريخية اليونانية القديمة التي تحدثت عن الجرهاء وحضارتها ومن ثم بدأت وبرفقة بعض الأصدقاء في السنوات الماضية في البحث والأستقصاء عن هذه القصة التاريخية. هل فعلاً وجد على ساحل الخليج العربي مثل هذه المدينه الشهيرة !؟ لم يكن هدفنا الحصول على ثروه مدفونة إطلاقاَ بل كانت غايتنا أسمى من ذلك بكثير. فبعد مراجعة دقيقة لجميع المصادر والشواهد التاريخية وبعد الإطلاع علىكثير من الخرائط البرية القديمة وقراءة بعض الأحداث المهمة التي مرت بها منطقة الخليج في تلك الحقبة، تكون لدينا قناعة تامة بأن هذه المدينة المفقودة توجد في المنطقة مابين شاطئ نصف القمر "دوحة الظلوم" وميناء العقير جنوباً، أماغربا جهة البر فيصعب تحديد العمق وذلك بسبب الكثبان الرملية الهائلة التي زحفت على المنطقة في الأونة الأخيرة ودفنت جميع المعالم الأرضية. وبينما كنا ندقق في بعض الخرائط جذب أنتباهنا التوافق الغريب بين أسم المدينة الذي أطلقه اليونانيين وهو "GERRHA" وكلمة قريّه بتشديد الياء بل جزمنا بأن اللفظ قد عرب إلى كلمة الجرهاء أو الجرعاء. ومنطقة القريّة تنحصر ضمن حدود المساحة التي يعتقد بأن مدينتنا الشهيرة الجرهاء توجد بها. ومن هنا كانت نقطة الأنطلاقة في البحث عن هذه المدينة المفقود.

على اغلب الظن الجرهاء تقع ضمن حدود الدائرة
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

بالطبع العثور على مدينة الجرهاء المفقودة سيثري التاريخ الإنساني بمعلومات هامة عن مدينة أسهمت بالكثيرفي صنع حضارة كانت نبراساً يحتذى به قديماً وحديثاً. فعلى أنقاض حضارة دلمون بزغ فجر جديد بنشؤ حضارة الجرهاء التي ملأت بشهرتها أسماع الممالك والدول القديمة لقد كان قاطنوها ينعمون بغنىً واسع ورغدٍ من العيش على حد قول المؤرخين. بيد أن مصدر تلك الثروة في ذلك الزمان لم يكن الذهب الأسود بطبيعة الحال بل كان مصدره نهوض وهمة الجرهائيين بأعباء الوساطة العالمية في التجارة والملاحة والنقل .
لقد تحكم وسيطر الجرهائيون بتجارة اللبان والمر والعطور والتمور والبخور والأعشاب الطبيه المنتجة من عمان وحضرموت. وكانت الجرهاء أيضاً محطة إعادة تصدير لمنتوجات الهند من توابل وعاج وبخور وزيادةً على ذالك الحرير الصينى المستورد من أسيا .فمن أبواب الجرهاء خرجت القوافل تتلكأ بسيريها الوئيد متجهةً إلى بلاد الشام فكان خط سير القوافل المحملة بالسلع المترفة يبتدء من الجرهاء ثم الجبيل ثم ثاج ثم شمالاًً إلى بلاد الرافدين أو غرباً عبر الصمان إلى مدائن صالح فبصرى فالبتراء ففلسطين فمدن أوروبا. ومن دون منازع أستطاع الجرهائيون التحكم والسيطرة التامة على هذه الرحلات البرية . علاوة على ما يتمتع به الجرهائيين من خبره فائقة ومعلومات جمة في فن الملاحة البحرية وفهم أسرار الرياح الموسمية قاموا بتشييد السفن الشراعية ونقل بضائعهم عبر الخلجان والبحور من الهند والخليج العربي قاصديين بلاد الرافديين " بابل" . كما أستطاعوا أكتشاف أهم مغاصات اللؤلؤ في الخليج فكانت بذالك مصدراً أخر لرزقهم. فرضوا المكوس والتعاريف الجمركية على التجارة التي تعبر من بلادهم وتقدم لها الحماية والدلالة والوصول إلى مبتغاها وبذالك أستطاع الجرهائيون أن يلعبوا دوراً هاماً في التبادل التجاري والنقل البري والبحري فحققوا بذلك عائدات مالية .

بعد هذا الاسترسال الوجيز عن أهم مظاهر حياة الجرهائيين وطبيعة عملهم دعونا في عجاله نستشهد ببعض النصوص التأريخية التي أوردها المؤرخين في وصف مدينة الجرهاء.
لقد أورد الجغرافي الروماني الشهير استرابو " Strabo " نقلاً عن المؤرخ اليوناني ارتيمدورس Artemidorus 276 -190 ق.م. المعلومات التاليه:
الجرهاء مدينه تقع على ساحل الخليج العربي على بعد مايقارب 60 ميلاً إلى الغرب من جزيرة دلمون "البحرين" . ويسكنها أقوام من الكلدانيين العرب والمنفيون من بابل وبأرض هذه المدينه أملاح " سباخ " , كما كان الناس يعيشون في منازل صنعت من أعمدة وجدران ملحية ويعمد الناس إلى رش هذه الجدران بالماء لتضل هذه الجدران متماسكة وأطلق عليها مدينة الجدران البيضاء. وقال أنهم أغنى العرب يقتنون الرياش الفاخرة ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف بما في ذلك أنية الذهب والفضة والفرش الثمينة ويجملون جدران منازلهم بالذهب والعاج والجمان والأحجار الكريمة.
كما أفاد المؤرخ بليني " Pliny " (22-79م) معلومات مشابهه وأضاف بأن مدينة الجرهاء بلغت مساحتها ما يقارب الخمسة أميال وأن بها أبراج مشيدة من الملح.
ولقد حقق الأستاذ القدير عبد الرحمن عثمان ال ملا في كتابه القيم تاريخ هجر وأكد على وجود هذه المدينه وأورد الكثير من الأدله والشواهد وأسهب في صف الحياة المعيشيه وقد أقتبست بعض فقرات المقد مة ونمط حياة الجرهائيين من كتابه الرائع .
كما حقق و ذكر علامة الجزيره رحمة الله الأستاذ الكبير حمد الجاسر في كتابه الشهير المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية الكثير عن الجرهاء ,وقام بزيارة منطقة الأحساء والتعرف على معالمها عن قرب وخلاصة حديثه رحمه الله بأن الجرهاء هي مدينة حقيقية وسادت في حوالي القرن الثالث قبل الميلاد. ولقد أورد شواهد أدبية وأدلة كثيرة وعلى الغالب من ظنه رحمة الله وعفي عنه بأن الجرهاء هي ما يعرف حالياً بالإحساء.
. بعد هذا السرد التأريخي والجغرافي الموجز عن هذه المدينة الشهيرة أعتقد بأنه قد تكون لدى القارئ والقارئه فكره مبسطه عن أهمية هذا التحقيق التاريخي .فبدأنا بزيارات ميدانية أملين في العثور على شئ ما يقدم لنا أجوبه عن هذه التساؤلات الكثيرة .فتحت أشعة الشمس الساطعة وحولنا البر الرحيب مكثنا نحملق في الأفق آملين بأن نجد نقطة أنطلاقة لرحلتنا الأستكشافية فقررنا بأن تكون البدايه ساحل شاطئ القريّة، ولكم كانت دهشتنا عندما عثرنا بمحاذاة الشاطئ على مباني خربة ومسيجة . كما جذب أنتباهنا الكثير من الكسر الفخاريه على طول الساحل فبدت لنا المنطقة على أنها ميناء قديم وبعد الإطلاع على بعض الكتابات الأثرية وتصنيف الكسر الفخارية أستنتجنا بأن نوعية الفخار تعود إلى الفتره الساسانية، التي سادت بعد حضارة الجرهاء. فبعد ذلك بدأنا بتمشيط المنطقة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وبمساعدة أجهزة تحديد المواقع أستطعنا أستكشاف ماتحويه المنطقة من معالم .
قبر أو مدفن ركامي لم يمس جاثم في المنطقه
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
بقايا جرة فخارية وجدت في منطقة الأستكشاف

لقد وجدنا العشرات من القبور والمدافن الركامية كما وجدنا المئات من القطع الفخارية المتكسرة وجميعها تعود إلى الفترة ما بين حضارة دلمون وبداية العصر الأسلامي المبكر . بعض المقابر الركاميه قد تم العبث بها منذ زمن بعيد بطريقه بربرية وأستخرج ما بها من مواد شخصية كانت تدفن مع الميت والبعض لم يفتح أو يلمس قط .


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

بقايا كسرمن قطع فخارية مختلفه مبعثره هنا وهناك

كما وجدنا في سبخات تلك المنطقة على أثار حقول زراعية أو أفلاج ربما كانت في الماضي القديم تستخدم لزراعة الأرز والقمح أو الرّي. كما أن هناك الكثير من الشواهد الحجرية أوربما علامات لتحديد الأراضي أو أطلال لحصون صغيره .استخلصنا من تقييمنا و مشاهداتنا وزياراتنا العديدة بأنه مما لاشك فيه أن هذه المنطقة قد شهدت الكثير من الأحداث والوقائع ويبدوا أنه كان لها أهمية تجارية ومعتقدية .


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

مدفن ركامي مبني من صخور بحرية قد تم العبث به

بعد تلك السنين الطوال من البحث والمراجعه نلخص أراء المؤرخين حول هذه المدينة في الأراء التاليه ؛ الكثير من المؤرخين والباحثين يعتقدون بأن الجرهاء مدينه لازالت تقبع تحت رمال الصحراء وتشتاق لمن يكشفها ويزيل الغموض عنها ، غير أن هناك نظرة أخرى ترى بأن الجرهاء قد دمرت تماماً بسبب الحروب وقامت على أنقاضها مدن جديده كالأحساء وتاروت ودارين وغيرها ....

أما أنا بدوري فقد بذلت الكثير من الجهد في معرفة حقيقة هذه المدينة وتكونت لدى وجهة نظر مخالفة , وهورأى شخصي , و أقول وبالله أستعين: بأن الجرهاء مدينة حقيقية وكانت لها أهمية أستراتيجية كنقطة وصل وعبور القوافل ولكن لم تكن ذات غنى فاحش على الأطلاق . ولكني أرى بأن المؤرخين اليونانيين أرتيمدورس و أراتوسينيس الذين أول من وصف الجرهاء قد أغدق وأسرف في وصف المدينة بالغنى والثراء الهائل لكي يجذب الحملات العسكرية اليونانيه المنظمه في جهة أسيا في تلك الفتره. وبأحتلالهم منطقة الجرهاء " الخليج " يمكنهم التحكم في خط سير القوافل ،فجاء وصفها بالثراء الفاحش لكي يثير شهية قادة الجيش وأصحاب القرار فقط. وأما القول بأنها قد دفنت تحت أرتال الرمال أو دمرت بسبب الحروب فــتلك مسألة نسبيه.

ممالا شك فيه على الإطلاق بأن الحضارة الإسلامية تتربع على قمة الهرم الثقافي والإرث الحضاري لهذه المنطقة ولاكن لها جذور صلبه تستقي من أمجاد الماضي و أصالة التراث .أنها الرسالة الخالدة التي قدمته اأجيال الماضي والحاضر للإنسانية جمعاء التي تدعوا التي التقدم والرفعة الحضارية على أساس المنافسة وكسب العيش الشريف.


تنويه:
أتمنى بهذه المشاركة البسيطة في منتدى المكشات الفريد قد أزدت في معلومات القراء والقارئات الكرام كما نرحب بالمشاركات وطرح الآراء والمناقشة حول هذا الموضوع مع العلم بان بعض الاستنتاجات التي أوردت في الموضوع تمثل رأي الشخصي وليست بالضرورة تعتمد على حقائق تاريخه موثقه. عفوا لأسباب معينه لن نبين إحداثيات المواقع المستكشفة,
==================================================
الخلاصة:
• الجرهاء المدينة المفقودة كانت المحرك الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي حوالي 300 سنه قبل الميلاد
• التوافق اللفظي الكبير مابين الاسم الذي أطلقه اليونانيون على المدينة وهو GERRHA ومنطقة " القريّه" التي تقع ضمن الوصف التاريخي، أكد بالبحث أن القريّه كانت على الغالب ميناء المدينة المفقودة
• الجرهاء كان لها أهميه إستراتيجية قصوى كهمزة وصل للقوافل البرية والبحرية
• خبرة وحنكة الجرهائيين بفنون الملاحة البحرية وفهم حركة الرياح الموسمية بوئنهم منزلة متقدمة في التجارة البحرية مابين الهند وبلاد الرافدين
• موقع المدينة وخبرة ساكنوها من الكلدانيين العرب والنازحين من بابل مّكنها من فرض المكوس والتعاريف الجمركية مما زاد في أثراء اقتصادها
• وصف الجرهاء بالثراء الفاحش من قبل المؤرخين اليونانيين أعتقد بأنه كان مجرد تمويه خادع لاستمالة الحملات اليونانية لاحتلال المنطقة والتحكم في شريانها الاقتصادي .