لو لم يكن من محاسن هذا الموضوع إلا شيء واحد لكان كافيًا ، ألا وهو عودةُ شيخنا أبي سهيل ( المسفهل ) !.
فكيفَ وقد جمع إلى ذلك الإحسان ، حُسنَ اختيار الموضوع ، وإظهاره بالمظهر الذي يليق بمثله ، ثم محاولة تطبيق كلام العلماء ومنهم الهجري ، وفهم إشاراتهم الخفية ما استطاع إلى ذلك ، ومن وراء ذلك ترجيح ما ترجّح عنده ، وهذا لا يأتي إلا بعد التعب ، وكثرة الخواطر ، فجزاه الله خيرًا .
وإن كان لي ملاحظةٌ على هذا الموضوع ، والحسناء كما قيل لا تعدم ذامًا ، فهي على أول بيتٍ أورده ألأخ أبوفارس ، وهو قول لبيد :
مُرِّيّةٌ حلّتْ بفيد وجاورتْ ** أهل العراق ، فأينَ منك مرامها
وهذا بيتٌ يقوله لبيد رحمه الله ، لمحبوبتة ، و بينه وبينها نأيٌ من الأرض ، فهو من بني عامر في عالية نجد .
ولكن قوله : إنها مجاورةٌ أهل العراق ، وهي بفيد ، أمرٌ غريبٌ ، فأين ( فيد ) ، من ( العراق ) ، والذي أعرفه أن ( فيد ) هي منتصف الطريق بين العراق ، والمدينة .
وإذا رجعنا إلى الديوان لنتأكّد من صحةِ هذه الرواية ، وجدناها لا تقلّ غرابةً عن الرواية الأولى ، فهي في الديوان هكذا : وجاورتْ أهل الحجاز ، وهذا أيضًا أمرٌ مشكل ، كيفَ تُجاورُ أهل الحجاز ، وهي بحائل أو بقربه ، وبينهما مسيرة أيام ، وإذا بحثنا عن روايةٍ أخرى أو وجهٍ آخر يخرج بنا عن هذا اللبس ، وجدنا أنَّ بعضَ المصادر تروي هذا البيت هكذا : وجاورتْ أهل الجبال ، وكأنَّ هؤلاء أحسوا بغرابةِ هذه الرواية ، فأبدلوها بهذه الكلمةِ ، و أراحوا أنفسهم من عناء هذا اللبس ، ولكنَّ الثقات لا يروونه هكذا ، وإنما يروونه : جاورتْ أهل الحجاز .
ولا أخفيك أنني ظللتُ في حيرةٍ من هذه الرواية مُدّةً ، حتى وقعتُ على نصٍّ نفيسٍ للوزير المغربي في كتاب ( أدب الخواص : 46 ) ، وهو يتكلّمُ عن أقسام جزيرة العرب ، وهو : وكذلك يُسمِّي العربُ كلَّ جبلٍ حجزَ بين أرضين حِجازًا ، قال حُريثُ بن عتاب النبهاني الطائي :
لنا نسوةٌ لايجري فيهنّ مَقسَمٌ ** خميسٌ ولا بعد التساهم مَربَعُ
حماهُنَّ من تبهان جمعٌ عرمرمٌ ** وصُمّ العوالي ، والحِجاز المُمَنّع
يُرى خارجيَّا لا يزال إذا بدا ** تُشيرُ لهم عينٌ إليه وإصبعُ
قال الوزير المغربي : يعني بالحجاز ها هنا جَبَليْ طيِّء .اه
وصدق فالعربُ تسمي ذلك حجازا ، قال الشاعر ، وهو جاهلي يصف حال قومه :
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ** مع الغيث ما نلقى ومن هو غالبُ
ولأبي جعفر شيخ أبي بكرٍ الأنباري كلامٌ لطيفٌ حول هذه الرواية ، في شرح أبي بكر للقصائد السبع الطوال ، فراجعها إن أحببتَ الاستزادة .
ولك الشكر مرة أخرى على هذا العمل القيم