ما يزال مشرفنا الفاضل يحتالُ في رُقيِّ هذه الخيمةِ التي ألقيت إليه أعباؤها ، ويجهدُ جَهدَه في نقلها مما هي عليه إلى ما هو أفضل ، فكان في صنيعه هذا كصنيع الأم بأولادها .
ونظر إلى ما حوله فوجد أن طائفةً من الأعضاء الكرام يعرف عن هذه المعالم شيئًا كثيرًا ، ولكن يصده عن إخراج هذه الكرائم التي يمتلكها ، خشيةُ الإعداد ، وطول الوقت الذي يمضيه في ذلك ، فأراد الأخ محمد أن يُسهلَ ذلكعلى الأعضاء فجعل الأمر كما قال تفاعليًّا ، أي لا يستقل بالموضوع شخصٌ واحدٌ من أوله إلى آخره ، وإنما هي شذراتٌ يضعها العضو ، بعد العضو فما هي إلا مُدة وجيزة فإذا هي قلادةٌ تامةٌ ، فيها من كل جوهرٍ نفيسٍ شذرة .
وقد حاولتُ أثني بما عندي ولكن المؤسفَ أنني لا أحسن تحميلُ الصور وما يتبع ذلك من تكييف الحجم وغيرِ ذلك ، وإن يكن من مشاركة لي في هذا الموضوع ، ففي إبداء بعض الملاحظات على مشاركة الأخ محمد ، وسوف يكون كلامي غير مثقلٍ بإيراد نصوص كلام العلماء ، فهي موجودة في مضانِها .
وهو أمرٌ هامٌّ يجبُ التنبيه عليه ، وذلك في استشهاد الأخ محمد بقول زيد الخيل رحمه الله :
أتتني لسان لا أسر بذكرها ** تصدع عنها يذبل ومواسلُ
فقد أجمع البلدانيون قديمًا ، وحديثًا على أن ( يذبل ) جبل في عالية نجد الجنوبيه ، وفي اليمامة وغيرهما إلا أنه لم يذكر أحدٌ منهم أنَّ في الجبلين من بلاد طيء جبلٌ يسمى ( يذبل ) ، حتى جاء بأَخرةٍ الأستاذ الجليل عبد الله الشايع ، فزعمَ أن في ( أجأ ) جبلٌ أو قنةٌ في ( أجأ ) بالقرب من مواسل ، فإن قلتَ كيف ذلك ولم يذكره أحدٌ من المتقدمين ومن المتأخرين ولا يعرف الآن جبلٌ هناك بهذا الاسم ، فإني أقول لمَّا قام الأستاذ بتحقيق المواضع التي وردت في أواخر مُعلَّقة امرئ القيس في ( الكتاب الثاني ) ، نظرَ في جو قصيدةِ امرئ القيس وسياقها العام فظهرَ له أنَّ يذبل الذي في قول امرئ القيس :
على قطنٍ بالشيم أيمن صوبه ** وأيسره على الستار فيذبل
إنما يقع شمالاً عن قطن لا جنوبًا كما ذهب أكثرُ المعاصرين كابن بليهد ، وابن جنيدل ، والعبودي ، واستدلَّ على ذلك بأن امرأ القيس كان قاعدًا بين العذيب ( قرب العراق ) وضارج ( الشقة ) ، وهو يشيمُ البرقَ ، وكان السحاب قد أقبل من العين أي من القبلة ( المنشأ ) ، فإذا كان كذلك وكان طرفُ السحاب الأول حينما رآه على قطن وهو الأيمن ، وكان طرفه الثاني على الستار ويذبل وهو الأيسر ؛ فإن يذبل والستار على هذا يقعان شمالًا من قطن الذي لم يختلف في تحديده وذلك لأنه اعتبر اليمين واليسار إنما هو بالنسبة للسحاب لا لمرئ القيس ، ثم إنه شبه السحاب بالجيش الذي أقبل من جهة الغرب وله مُجنّبةٌ يمنى ويُسرى ، فاليمنى بالنسبة للجيش هي اليسرى لمن هو مقابلٌ لها ، واليسرى هي اليمن أيضًا لمن هو مقابل لها ، فراح على هذا التصور يلتمسُ جبلا يكون شمالاً من قطن يسمى يذبل ، فلم يجد إلا قول زيد الخيل المذكور الذي ربطه بأسماء جبالٍ واقعةٍ في ( أجا ) ، فجعله دليلاً على أنه هو الذي أراده امرئ القيس هناك وليس يذبل هذا المعروف ، وهذا لا شك تصورٌ جيدٌ ، وقد استقصيتُ البحثَ في دواوين الشعراء يؤيد ما ذهب ليه الاستاذ فوجدت عددا من الشواهد ومنها هذان الشاهدان يدلان على ذلك صريحين الأول لتميم بن أبي بن مقبل من بني العجلان ثم من بني عامر بن صعصعة قال يصف غيثًا أقبل من القبله :
.
تهلّلَ بالغورينِ غَوْرَيْ تِهامةٍ ** وحَلّتْ رواياه بِنَجدٍ وعسكرا
له قائدٌ دُهْمُ الرَّبابِ وخلفه ** روايا يُبَجِّسنَ الغَمامَ الكنهورا
وكان حياً بالشام أيسرُ صوبه** وأحيا حيا عامين في أرض حِمْيرا
وبات يَحُطُّ العصمَ من أَجْبُلِ الحمى** وهَمَّتْ رواسي صخره أن تحدَّرا
فدل على أن أيسر السحاب بالنسبة لمن هو في نجد هو الشمال كما تصوَّر الأستاذ ، وأنّ أيمن السحاب إلى أرض حمير وهو الجنوب .
والشاهد الآخر قول النابغة الجعدي ، يصفُ أيضًا سحابًا أقبل من الغرب ، وحدد مسار السحاب فقال :
فذر ذا ولكن هل ترى ضوء بارق ** يضيء من الأعراض أثلاً وعرعرا
يـبيت على تثليث أيــــمن صوبه ** وأيسره يعلو كــــــراء وكــــركرا
و( كراء ) و( كركرا ) ،هذه شمالاً من ( بيشة )، و( تثليث ) جنوبًا منها ، وهذا دليلٌ آخر أن أيمن الساحب بالنسبة لمن أقبل بوجهه على السحاب هو الجنوب ، وأن أيسره هو الشمال .
ومع كلِّ هذا فإني لا أرى ما ذهب إليه الشايع ، لأنَ زيد الخيل لم يرد أن في ( أجا ) جبلاٌ يدعى يذبل ، ولم يقرنه بهذه الجبال لكونه بالقربِ منها وإنما قرنه بها لأمر آخر ألا وهوالعظمة في كلٍّ ، كما قال هذا الشاعر :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبَرٌ ** هوى له أحدٌ ، وانهدَّ ثهلان
ومعلوم أن بين الجبلين مسيرة أيام ، وأما استدلاله بقول الهمداني فليس فيه دليل لأنه لم يذكر يذبل في تلك الناحية أعني قرب ( أجا ) ، بل ذكره مع دقار وهذا لا يعدو أن يكون تصحيف ذقان الذي كثيراً ما يذكر مع يذبل قال مزرد :
أنهنه من رعيانها بعد ما أتت ** على كل وادٍ من ذقان ويذبل
ورأيي أن في بيت امرئ القيس تصحيفٌ قديم أو أن امرأ القيس توهم فجعل اليمين يسار ، وهذا كثير ، ورد عن عدد من البلدانيين كقولهم إن متالع يمين إمرة ، وهذا وهم والصواب أنه يسارها للمصعد لأنهم إذا ذكروا يمين الشيء فإنما يذكرونه وكأنه إنسان قد أقبل عليك بوجهه ، ثم كيف يكون بهذه العظمة بحيث قرن بمواسل ، ولم نرأ أحدًا من شعراء طيّْ يذكره أو يشير إليه .
وأخيرًا فإن هذه الأماكن التي ذكرتْ في أواخر قصيدة امرئ القيس إذا جئتَ لتوفق بينها فإنَّ الحليم يحار فيها لتضادها ولكثرة تضاربِ الرواية فيها ، وقد تحتاج إلى سنين ليتوصل المرء فيها إلى قولٍ فصل .