البارحة لم أنم ولا ادري حقيقة مالذي دفعني لتذكر الماضي بكل مافيه من أحداث ، وجدت نفسي ممسكا بالقلم وأدون شيئا من الخاطر .
ربما لأني كنت مغرما بسماع قصص الآخرين عن تجربتهم في الصحراء ، أقدمت على هذه الخطوة ، وربما أشياء اخرى لم اتوصل لها .
المهم هو ان تكون هذه البداية سببا في إزالة مابيننا من حواجز ، لننطلق عبر هذه الخيمة لكتابة أي قصة أو خاطرة كانت سببا مباشرا أو غير مباشر لجمعنا تحت سقف واحد في هواية واحدة .
فلكل منا قصة ولكل منا تجربته في هذه الحياة .
فقصتي وقصتك قد تفيد آخرين وتكشف لهم شيئا جد يدا كانوا بأمس الحاجة لمعرفته .
واسمحوا لي بهذه المحاولة البسيطة .
واعذروني على الأقل بالبوح عن عشقي قبل ان تخذلني الذاكرة
مذ كنت طفلا وأنا أشعر بميل للطيور وحب لها ، ولا أدري هل كان ذلك وراثة أم تأثير عائلي ، فالجو الذي أعيشه جو يشجع على عشق الصيد ،
فوالدتي ( اطال الله عمرها ) كانت تصطاد لنا الطيور وتعلمنا الرماية ، في فناء منزلنا الواسع المليء بأشجار الرمان والتين ، وجدي لأمي عاشق صيد ماهر وجدي لأبي صانع ملح بارود متميز في زمنه .
هذه الظروف مجتمعة ربما كانت سببا في إنجرافي وراء هذه الهواية المثيرة ، التي لم أندم يوما على ممارستها .
ولازلت أذكر جدي لأمي وهو يأخذنا معه بين حين وآخر ونحن أطفال صغار لممارسة هوايته التي أحبها فأحببناها .
كنت أشعر بمتعة غريبة وأنا أرى بين يديه حصيلة ما إصطاده من طيور جميلة ، وكنا نتسابق لنيل ريشها اكثر من تسابقنا لأكلها .
وعندما إمتلكت سيارة وعمري حين ذاك لم يتجاوز الثالثة عشر ، لم يكن هناك شيء آخر يشدني في الحياة سوى معانقة الصحراء والصيد في ربوعها ، مهما بلغت صعوبة الطريق وجهلي بمتاهاته ..
لكن ماشجعني أكثر على خوض تلك المغامرات هي تلك الإبتسامة الصادقة التي اراها على وجه أبي ( يرحمه الله ) عندما آتيه بصيد وفير ..
وبعد فترة من الزمن بدأ الناس يتحدثون عن الصمان ومافيه من جو مناسب للإصطياد ، فتولدت لدي الرغبة بالذهاب الى هناك والإحساس بالمتعة المنشودة على تلك الأراض التي احببتها من وصف الناس لها ، قبل أن أراها ..
إخترت صديقا عزيزا لمرافقتي وذهبنا الى الصمان ( الغربي ) حسب مصطلح أبناء القصيم ..
فوجئت بكثرة القناصة والسيارات وكأننا في حفلة عرس ، فتبخرت احلامي التي كنت ارسمها للارتباط بتلك الأراضي ، لكني صممت ان اجد مكانا آخر أكثر عزلة وأوفر صيدا ..
قلت في نفسي لم لا اجرب الصمان الشرقي وفعلا ذهبت الى هناك فوجدته مكانا مختلفا بمعنى الكلمة ، حيث لا بشر هناك سوى سيارة أوسيارتين في اليوم لراعية أو راع يبدو انهم يذهبون لجلب ماء او نحوه ..
ورغم ان الطريق طويل جدا حوالي 360 كم منها 60 كم ترابية ، إلا أني ادمنت الذهاب الى هناك وحيدا في الغالب ، وفي العطل الأسبوعية فقط .
ربما دون ان ادري تولد عشق بيني وبينها ، وكأن هناك نوع من السحر يشدني لتلك الديار ..
كنت غالبا ما اصل اليها في منتصف الليل لأنام هناك قريبا من فياض السدر ، فأقوم في التاسعة صباحا لإعداد القهوة والإفطار محاولا إضاعة الوقت قليلا
حتى ترتفع الشمس ، وتنزل الطيور جماعات في ظلال الأشجار - إتقاءا للحر الشديد - فتبدأ رحلتي بين الفياض وحيدا حيث لامنافسون على الاصطياد ،
ومن هنا يبدأ التفنن في الرماية ، ومحاولة صيد أكبر مايمكن منها بطلقة واحدة ، وهذا ماحدث كثيرا .
ولعل اجمل مافي ذلك هو لحظة إطلاق الرصاص ولحظة جمع ماسقط من الطيور ، فرحة لايمكن وصفها بالكلمات ..
فكيف لك ان تصف مجموعة كبيرة من الطيور في ظل صغير لايحول بينك وبينها أي حائل ، ولا تخشى قدوم غيرك لإزعاجها أوإزعاجك ..
وكم كنت اتمنى لو كان معي وقتها آلة تصوير تسجل تلك المناظر الجميلة للتاريخ وللذكريات ..
لقد كنت اتنقل بين فيضة وأخرى حتى الرابعة عصرا حيث تكتمل اللفة وينتهي بي المطاف حيث بدأت .
أصبحت تلك الأراضي بالنسبة لي كالحي الذي اعيش فيه ، فكل مافيها من علامات كنت احفظها عن ظهر قلب في وقت لم يكن هناك اجهزة إحداثيات ،
ولا وسائل اتصال لاسلكية ، وهنا المتعة الحقيقية عندما تعتمد على قدراتك المحضة في طرق دروب الصحراء دون توهان ..
أصل العصر إلى المكان الذي ألفت الغداء فيه والتمتع بروعة صحرائه قبل الغروب .
القدر على النار وعيوني تجوب المكان للتمتع بذلك المنظر الساحر ، كنت اعتبر كل شجرة سدر حبيبة ، وكل طائر هناك هبة من الرحمن لم يهبه لغيري ،
ربما كان ذلك بفضل الله ثم دعاء الوالدين ، وحرصي على أداء الصلوات في اوقاتها ( فلله الحمد والمنه ) ..
عندما تجلس قبل الغروب هناك فانت بمعزل عن ضجيج العالم ، وأمام لوحة فنية رائعة ترسمها الشمس في غروبها على كل الأشياء من حولك .
حتما ستعشق تلك الصحراء وتدمن رائحة أشجارها وترابها ..
ما اجمل وأروع ان تحب شيئا ما بجميع حواسك ، يخيل إليك احيانا ان هذا العشق ليس سوى سحر إحتواك من رأسك الى أخمص قدميك .
تنطلق عيناك في الفضاء وتتنفس رائحة الصحراء بعمق ، وتطرب أذناك بهدوء خيالي عجيب ، ويكتمل هذا الجمال عندما تتذوق اول رشفة من فنجان قهوة أو شاي بعد تعب يوم كامل ،
حتى تصل الى الذروة برؤية طبقك وقد اصبح جاهزا بين يديك ، كبسة برية تزينها الطيور بلمعة دهونها التي تكسوها ، فتقبل إليها بنهم شديد وتود ان لاتشبع منها أبدا ..
وما ان تنتهي حتى تأخذ جولة تأمل قصيرة حول المكان قبل ان يسدل النهار ستارته ، إيذانا بقدوم الظلام الذي لايقل روعة وجمالا ، حيث تستلقي على فراشك ملقيا بجسدك المنهك تحت نور القمر
الذي يسبح في سماء صافية تتلألأ فيها النجوم ، مضفية على المكان روعة مابعدها روعة ، وتنطلق القريحة للتعبير عما يختلج في النفس من خواطر حتى تستسلم العيون في تلك البقعة الآمنة من العالم
، لنوم عميق مليء بالأحلام والخيالات عن مفاجآت الغد المنتظر ..
وكيف لا تأمن وأنت داخل الحدود السعودية . أدام الله امنها وأعزها بالاسلام ..
كنت في ذلك النعيم مهووسا ولم اكن اتوقع ان ياتي يوم من الايام بآخرين لتلك الأراضي ، ولم اكن أتوقع ان تُقطع الأشجار وتهجر الطيور محطاتها ، حتى أعادني الحنين اليها بعد إنقطاع طويل
لأجد أن من احببتها يوما قد شاخت ولم تعد تستقبلني بالحب كما كانت ..
فلم يعد هذا الزمن زمنها ولا المكان مكانها ، ويبدو انها إنتقمت مني لأني كنت أنا اول من بدأ بهجرها ..
أطرق رأسي وأتذكر الماضي ، ولا ادري أي حزن هذا الذي يتملكني ..
إنه حقا شعور حزين مبك . ويعلم الله ان العين تدمع ، فمن ذا الذي يفقد حبيبا ولا يبكيه .
إنتهى
..........
قريبا إن شاء الله السبب الحقيقي لهجري من أعشق
( دراما حقيقية )
تحياتي للجميع
الجزء الثاني :
الصمان ... ( قصة عشق ) .... (2)