كنت مع الوالد... لا أتذكر اين ولا متى ..
غير انه كان ما يشبه ارض خلاء صغيرة بين البيوت ومجموعة من الرجال أصواتهم متداخلة, احدهم يتحدث بعصبية, عيونه حمر وعروق رقبته نافرة وهو يحلف بالأيمان المغلظة انه " يجيب لندن بالقايلة "
كان كما يبدو يحرج على راديو شاحنته القلابي ..
وفي طريق العودة عبرت لأبي عن استغرابي وتساؤلي عن سر رادو القايلة الذي لم يستوعبه رأسي الصغير فأجابني الوالد بحسب ما تيسر له من معرفة في العلاقة بين أحوال الطقس والتقاط موجات الراديو البعيدة ..
وسكتُ لقلة احتفائي ــ اصلا ــ بالراديوهات ومواصفاتها فقد كانت لا تهمني في قليل ولا كثير غير اني ادرك مكانتها عند ابي وربعه فالرادو لا يفارقهم لا في بر ولا في سفر ولا في حضر وكان اكثر ما يحرص ابي على سماعه إذاعة الكويت نهارا وإذاعة لندن ليلا ..
وقد ارتبطت عندي موسيقى مقدمة نشرة اخبار الكويت بموعد الغداء ...ولربما لو سمعتها الان لسال عابي ولداعبت خياشمي رائحة الرز المكشن ..حتى ولو كان غدانا بيتزا ..
كان ابي اذا عاد مساء يمكث في سيارته قبل ان يطفئها ريثما يتم استماعه لنشرة اخبار لندن ..فاذا اختتم المذيع قراءة الموجز بعبارته المعهودة : هذا ماجد سرحان يحييكم من لندن ... دعس ابي على دواسة البنزين دعسة قوية [ عووووون ] وادار المفتاح مطفئا السيارة ...
هل هي بمثابة النحنحة التي يعلمنا بها بانه وصل البيت .. أم أن فيها ثمة فائدة لمكينة السيارة ... الله اعلم ..
المهم .. خيط السالفة في الموضوع ان الوالد يطفيء الموتر فينطفيء الراديو تبعا له ...
وفي الصباح وفي مشوار الذهاب الى المدرسة اتكوم في مرتبة قدام وانا نصف نائم .. والراديو البغيض مفتوح على إذاعة لندن ــ من البارح ــ والتي لا يلتقطها الراديو صباحا ... انما شوشرة كريهة وموت بطيء يحفر في اذني ويصل دريله الى شغاف قلبي
عندها ادركت قيمة رادو القلابي اللي يجيب لندن في القايلة ...
هذا "وانت الصادق" يحييكم من خشم العان طن طن ..