المتباري
03/10/2011, 07:48 AM
ضرورة تحديد منهج البحث في موضوعات (الفلك والأهلَّة)
د. عماد الدين عبد الوهاب خيتي (http://www.aleqt.com/author/emad_khati)
http://www.aleqt.com/a/584939_179859.jpg
من أهم أسس أي حوار أو بحثٍ ناجح ـ إضافة إلى تحرير محل النزاع ـ تحديد المنهج الذي يتَّبعه الباحثون أو المتحاورون؛ فذلك يضمن وضوح الطريق الذي يسيرون فيه، والأسس التي يحتكمون إليها عند الخلاف، وعدم التناقض في الموضوع الواحد بالتَّنقُّل بين عدة مناهج.
لذا فقد اهتم سلفنا الصالح بهذهِ القاعدة اهتمامًا عظيمًا، لا سيما في مجالِ المناظرات والمناقشات.
والبحث في موضوع (الفلك والأهلَّة) مما ينبغي ضبط منهج البحث والحوار فيه، ويمكن الحديث عنه في هذه المقال من خلال المسألتين التاليتين:
المسألة الأولى: حساب فلكي أم رؤية؟
على الرغم من بدهية الإجابة عن هذا التساؤل عند الكثيرين، إلا أنَّ الإشكالية تظهر في التطبيق العملي، وسأكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى نقطتين:
النقطة الأولى:
من المعلوم أنَّ لتحديد بدايات الشهور القمرية طريقتين: إثباتها عن طريق (رؤية الهلال)، وإثباتها عن طريق (الحسابات الفلكية)، وقد أخذت غالبية الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي (برؤية الهلال) طريقًا لإثبات أول الشهر، عملاً برأي جمهور أهل العلم في هذه المسألة.
أما علماء الفلك: فقد جَرَت عادتهم على توضيح البيانات الخاصة بحركة القمر، وولادته، وإمكانية الرؤية، وغير ذلك، ثم النصّ على أنَّ من كان يأخذ بالرؤية فستكون بداية الشهر بالنسبة له يوم كذا، ومن يأخذ بالحساب فستكون بداية الشهر يوم كذا، دون تدخلٍ في إثبات دخول الشهر شرعًا، وترك ذلك للجهات المُخوَّلة بها.
فالموقف من الرؤية أو الحساب محسومٌ لدى الجميع قبل الترائي، لكن هل يستمر الأمر كذلك في أثناء المناقشات والردود؟
بالعودة إلى هلال شهر شوال لهذا العام 1432هـ:
فقد أبدى علماء الفلك اعتراضهم على شهادة الشهود برؤية هلال شهر شوال في مناطق يحكم علم الفلك بعدم إمكانية الرؤية فيها نظريًا، ولم تتمكن الأجهزة العلمية من رؤيته فيها تطبيقيًا.
ثم كان من أبرز الرُّدود على علماء الفلك مقولة من قال: ''كان الهلالُ في مساء يوم الثلاثاء 2/10 مرتفعًا في السماء، وكبيرًا، مما يدل على أنَّه ابن ليلتين، وفي المنزلة الثانية من منازله، مما يدعم أقوال الشهود بأنَّهم رأوه، ويردُّ مزاعم الفلكيين بالتشكيك في صحة شهادة الشهود''، وقيل مثل ذلك ليلة (إبدار القمر).
والحقيقة: أنَّ هذه العبارة التي تكرَّرت مرارًا فيها انتقالٌ من (منهج الرؤية) إلى (منهج الحساب) دون أن يدري أصحابها، وبيان ذلك كما يلي:
قرَّر علماء الفلك في كثيرٍ من المناسبات والتصريحات أنَّ هلال شهر شوال موجودٌ في سماء الدول العربية يوم الإثنين 29 رمضان 1432هـ، لكنَّ ظروف وجوده: من قربٍ من سطحِ الأرض في الأفق، وقربٍ من الشمس، وغروبٍ مع الشمس في بعض البلدان، وغيرها، تمنع من رؤيته، لكنه موجود بالفعل.
كما قرَّروا أنَّ الأجهزة الفلكية تمكنت من رصد مكان الهلال وتحديده، دون التمكُّن من رؤيته، إذ القمر موجود، لكن لا يمكن رؤيته، فعلماء الفلك لم ينفوا (وجود القمر) بل نفوا (إمكانية رؤيته)، وشتان بين الأمرين، فليس كل موجودٍ مرئيا.
وعليه: فإنَّ القول إنَّ القمر كان في مساء الثلاثاء في المنزلة الثانية من منازله: ليس دليلاً على وقوع الرؤية، بل دليلٌ على صحة حسابات الفلكيين بأنَّ القمر كان موجودًا مساء الإثنين، وقد يصلح دليلاً لمن يقول بالأخذ بالحساب الفلكي، وإن لم يكن هناك رؤية!
النقطة الثانية:
استدلَّ بعض من ردَّ على تشكيك الفلكيين في شهادة الشهود بأنَّ الفلكيين متناقضون في أقوالهم وأفعالهم، إذ إنَّهم يُعلنون عن عدم إمكانية رؤية هلال شهر شوال يوم الإثنين 29 رمضان، وإنَّ الأول من شوال ينبغي أن يكون يوم الأربعاء 31 آب (أغسطس)، بينما يجعلون الأول من شوال في تقويم أم القرى هو يوم الثلاثاء 30 آب (أغسطس)، فأيُّ تناقضٍ هذا؟ وبأي أقوال الفلكيين نُصدِّق؟
وللإجابة عن هذا الاعتراض:
ينبغي التوقف عند معرفة الأسس التي أقيم تقويم أم القرى على أساسها:
عندما بدأ التفكير في وضع تقويمٍ ثابت يعتمد عليه الناس في معاشهم، وفي تأريخ ما يحتاجون إليه من أمور حياتهم الماضية أو الحاضرة أو المستقبلية: قامت لجنة التقويم (ومن أعضائها فلكيون من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) بوضع العديد من الضوابط، ومن أهمها:
أنَّ تقويم أم القرى هو تقويمٌ حياتي (مدنيٌ) يعتمد على حسابات فلكية مُعينة يُراعى فيها وجود القمر، بغض النظر عن إثبات رؤيته شرعًا؛ وذلك لضرورة وجود تقويم ثابت مستقر معروف للناس يستطيعون تحديد أعمالهم بناءً عليه؛ لذا فإنَّ جميع القرارات في السعودية وفي العديد من الدول الإسلامية تصدر بالتأريخ بتقويم أم القرى، ويكون الالتزام فيها بالتواريخ المُحدَّدة في التقويم، وإن اختلفت حقيقةً في بعض الشهور بسبب إثباتها عن طريق المحكمة الشرعية، كشهر رمضان، وذي الحجة.
فتقويم أم القرى لا يعتمد على (رؤية الهلال) بل على (وجود القمر) وفق ضوابط محددة.
أما بداية الشهور الشرعية: فالمرجع فيها إلى الجهات الشرعية كالمحكمة العليا.
فقول علماء الفلك إنَّ يوم الأربعاء هو الأول من شهر شوال: مبنيٌ على أنَّ الهيئات الشرعية لا تأخذ بالحساب بل بالرؤية، لذا فإنَّ تصريحاتهم وبياناتهم كانت توضِّح هذين المنهجين المختلفين، كتصريحات فلكيي (مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) و(المشروع الإسلامي لرصد الأهلَّة) والتي تنص على أنَّ: (الأربعاء 31 آب ''أغسطس'' أول أيام عيد الفطر المبارك حسب الرؤية، والثلاثاء 30 آب ''أغسطس'' للحسابات الفلكية).
فلا تعارض في بيانات الفلكيين؛ وإنما هما منهجان مختلفان، ولكل منهجٍ منهما أدواته ووسائله المختلفة.
المسألة الثانية: شهرٌ محلي أم عالمي؟
لأهل العلم في اتفاق البلدان أو اختلافها في بدايات الشهور القمرية ثلاثة أقوال:
1_ تحديد كل بلد لأشهره على حدة، بغضِّ النظر عن البلدان الأخرى.
2_ اتفاق كل مجموعة من البلدان المُتقاربة في بدايات الشهور.
3_ اتفاق جميع بلدان العالم واتحادها في دخول الشهور القمرية.
ويتناول أهل العلم هذه الأمور بالبحث تحت عناوين (البلدان التي تتفق في جزءٍ من الليل)، و(اختلاف المطالع)، ولكلِّ قول تفصيلاته وأدلته التي يطول الحديث عنها. وتنتهجُ غالبية البلدان الإسلامية - ومنها السعودية - منهج إثبات شهري رمضان وشوال في بلدها محليًا بغض النظر عن إثباتها في البلدان الأخرى، وقد تخضع تلك المسألة في بعض السنوات لاعتبارات معينة فتتفق بلدان مع بعضها، وقد تختلف.
والمهم في هذه المسألة:
أنَّ من يأخذ بقولٍ من أقوال أهل العلم السابقة ينبغي أن يقتصر عليه، ويلتزم به، لا أن يتنقَّل بين هذه الأقوال لدعم ما يذهب إليه:
فبالعودة إلى إثبات شهر شوال لعام 1432هـ، وما حصل فيه من تساؤل علماء الفلك عن دقة شهادة الشهود: ردَّ عليهم البعض بأنَّ هناك تناقضًا بين الفلكيين: ففريق يزعم أنَّ الهلال لا يُمكن أن يُرى، وفريقٌ يزعم أنَّ الهلال يمكن أن يُرى في عددٍ من البُلدان، وهذا _ برأيهم _ دليلٌ على تناقض الفلكيين، وعدم دقة حساباتهم، وبالتالي صحة شهادة الشهود.
والحقيقة: أنَّ هذا الأمر غير صحيح:
فبالرجوع إلى بيانات ترائي الهلال ليلة التَّحري يمكن ملاحظة أنَّ الهلال يمكن أن يُرى في بُلدانٍ مُعينة من العالم، بينما لا يُمكن أن يُرى في بلدانٍ أخرى، حسب البيانات التالية:
1_ رؤية الهلال مستحيلة في غالب مناطق (أمريكا الشمالية، وأوروبا، وآسيا) بسبب غروب القمر قبل غروب الشمس أو بسبب حصول الاقتران السطحي بعد غروب الشمس.
2_ رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب فقط في بعض مناطق (أمريكا اللاتينية، وجنوب إفريقيا).
3_ رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب في بعض مناطق (أمريكا الجنوبية)، ومن الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة في حالة صفاء الغلاف الجوي التام والرصد من قبل راصد متمرس.
4_ رؤية الهلال ممكنة بالعين المجردة في (جنوب أمريكا الجنوبية).
5_ رؤية الهلال غير ممكنة بالعين المجردة أو بالتلسكوب في المنطقة الممتدة من (وسط أمريكا الشمالية، إلى معظم شمال ووسط إفريقيا، والشرق الأوسط، وأواسط آسيا وجنوبها) على الرغم من غروب القمر بعد غروب الشمس ومن حصول الاقتران السطحي قبل غروب الشمس، وذلك بسبب قلة إضاءة الهلال أو بسبب قربه من الأفق، وذلك كما هو موضح في الخريطة.
سبب اختلاف الرؤية بين البلدان
يعود اختلاف إمكانية رؤية الهلال بين بلدان العالم إلى عوامل فلكية بحتة، منها: طبيعة شكل الأرض، وكيفية دورانها، وميل محورها، وكيفية حركة القمر حول الأرض، وشروقه عليها، وغيرها، وهي أمور في غاية الأهمية والدقة، وليس هذا مجال بسطها.
وعليه: فإمكانية رؤيةُ الهلال في بلدٍ أو مكانٍ ما لا يستلزم إمكانية رؤيته في مكان آخر بإطلاق، وليسَ لأحد أن يؤكد إمكانية رؤية الهلال أو عدمها قياسًا على إمكانية رؤيته في بلدٍ آخر، إلا بمعرفة الاتفاق أو الاختلاف بين هذه البلدان في ذلك.
وأخيرا
فإنَّ العديد من الخلافات والأخطاء التي تحدث أثناء مناقشة موضوعات (الفلك والأهلَّة) يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها بدرجةٍ كبيرة بالتزامٍ منهجيةٍ واضحةٍ مُحددة في تناولها، لا تناقض فيها ولا اختلاف.
http://www.aleqt.com/2011/09/29/article_584939.html
د. عماد الدين عبد الوهاب خيتي (http://www.aleqt.com/author/emad_khati)
http://www.aleqt.com/a/584939_179859.jpg
من أهم أسس أي حوار أو بحثٍ ناجح ـ إضافة إلى تحرير محل النزاع ـ تحديد المنهج الذي يتَّبعه الباحثون أو المتحاورون؛ فذلك يضمن وضوح الطريق الذي يسيرون فيه، والأسس التي يحتكمون إليها عند الخلاف، وعدم التناقض في الموضوع الواحد بالتَّنقُّل بين عدة مناهج.
لذا فقد اهتم سلفنا الصالح بهذهِ القاعدة اهتمامًا عظيمًا، لا سيما في مجالِ المناظرات والمناقشات.
والبحث في موضوع (الفلك والأهلَّة) مما ينبغي ضبط منهج البحث والحوار فيه، ويمكن الحديث عنه في هذه المقال من خلال المسألتين التاليتين:
المسألة الأولى: حساب فلكي أم رؤية؟
على الرغم من بدهية الإجابة عن هذا التساؤل عند الكثيرين، إلا أنَّ الإشكالية تظهر في التطبيق العملي، وسأكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى نقطتين:
النقطة الأولى:
من المعلوم أنَّ لتحديد بدايات الشهور القمرية طريقتين: إثباتها عن طريق (رؤية الهلال)، وإثباتها عن طريق (الحسابات الفلكية)، وقد أخذت غالبية الهيئات الشرعية في العالم الإسلامي (برؤية الهلال) طريقًا لإثبات أول الشهر، عملاً برأي جمهور أهل العلم في هذه المسألة.
أما علماء الفلك: فقد جَرَت عادتهم على توضيح البيانات الخاصة بحركة القمر، وولادته، وإمكانية الرؤية، وغير ذلك، ثم النصّ على أنَّ من كان يأخذ بالرؤية فستكون بداية الشهر بالنسبة له يوم كذا، ومن يأخذ بالحساب فستكون بداية الشهر يوم كذا، دون تدخلٍ في إثبات دخول الشهر شرعًا، وترك ذلك للجهات المُخوَّلة بها.
فالموقف من الرؤية أو الحساب محسومٌ لدى الجميع قبل الترائي، لكن هل يستمر الأمر كذلك في أثناء المناقشات والردود؟
بالعودة إلى هلال شهر شوال لهذا العام 1432هـ:
فقد أبدى علماء الفلك اعتراضهم على شهادة الشهود برؤية هلال شهر شوال في مناطق يحكم علم الفلك بعدم إمكانية الرؤية فيها نظريًا، ولم تتمكن الأجهزة العلمية من رؤيته فيها تطبيقيًا.
ثم كان من أبرز الرُّدود على علماء الفلك مقولة من قال: ''كان الهلالُ في مساء يوم الثلاثاء 2/10 مرتفعًا في السماء، وكبيرًا، مما يدل على أنَّه ابن ليلتين، وفي المنزلة الثانية من منازله، مما يدعم أقوال الشهود بأنَّهم رأوه، ويردُّ مزاعم الفلكيين بالتشكيك في صحة شهادة الشهود''، وقيل مثل ذلك ليلة (إبدار القمر).
والحقيقة: أنَّ هذه العبارة التي تكرَّرت مرارًا فيها انتقالٌ من (منهج الرؤية) إلى (منهج الحساب) دون أن يدري أصحابها، وبيان ذلك كما يلي:
قرَّر علماء الفلك في كثيرٍ من المناسبات والتصريحات أنَّ هلال شهر شوال موجودٌ في سماء الدول العربية يوم الإثنين 29 رمضان 1432هـ، لكنَّ ظروف وجوده: من قربٍ من سطحِ الأرض في الأفق، وقربٍ من الشمس، وغروبٍ مع الشمس في بعض البلدان، وغيرها، تمنع من رؤيته، لكنه موجود بالفعل.
كما قرَّروا أنَّ الأجهزة الفلكية تمكنت من رصد مكان الهلال وتحديده، دون التمكُّن من رؤيته، إذ القمر موجود، لكن لا يمكن رؤيته، فعلماء الفلك لم ينفوا (وجود القمر) بل نفوا (إمكانية رؤيته)، وشتان بين الأمرين، فليس كل موجودٍ مرئيا.
وعليه: فإنَّ القول إنَّ القمر كان في مساء الثلاثاء في المنزلة الثانية من منازله: ليس دليلاً على وقوع الرؤية، بل دليلٌ على صحة حسابات الفلكيين بأنَّ القمر كان موجودًا مساء الإثنين، وقد يصلح دليلاً لمن يقول بالأخذ بالحساب الفلكي، وإن لم يكن هناك رؤية!
النقطة الثانية:
استدلَّ بعض من ردَّ على تشكيك الفلكيين في شهادة الشهود بأنَّ الفلكيين متناقضون في أقوالهم وأفعالهم، إذ إنَّهم يُعلنون عن عدم إمكانية رؤية هلال شهر شوال يوم الإثنين 29 رمضان، وإنَّ الأول من شوال ينبغي أن يكون يوم الأربعاء 31 آب (أغسطس)، بينما يجعلون الأول من شوال في تقويم أم القرى هو يوم الثلاثاء 30 آب (أغسطس)، فأيُّ تناقضٍ هذا؟ وبأي أقوال الفلكيين نُصدِّق؟
وللإجابة عن هذا الاعتراض:
ينبغي التوقف عند معرفة الأسس التي أقيم تقويم أم القرى على أساسها:
عندما بدأ التفكير في وضع تقويمٍ ثابت يعتمد عليه الناس في معاشهم، وفي تأريخ ما يحتاجون إليه من أمور حياتهم الماضية أو الحاضرة أو المستقبلية: قامت لجنة التقويم (ومن أعضائها فلكيون من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) بوضع العديد من الضوابط، ومن أهمها:
أنَّ تقويم أم القرى هو تقويمٌ حياتي (مدنيٌ) يعتمد على حسابات فلكية مُعينة يُراعى فيها وجود القمر، بغض النظر عن إثبات رؤيته شرعًا؛ وذلك لضرورة وجود تقويم ثابت مستقر معروف للناس يستطيعون تحديد أعمالهم بناءً عليه؛ لذا فإنَّ جميع القرارات في السعودية وفي العديد من الدول الإسلامية تصدر بالتأريخ بتقويم أم القرى، ويكون الالتزام فيها بالتواريخ المُحدَّدة في التقويم، وإن اختلفت حقيقةً في بعض الشهور بسبب إثباتها عن طريق المحكمة الشرعية، كشهر رمضان، وذي الحجة.
فتقويم أم القرى لا يعتمد على (رؤية الهلال) بل على (وجود القمر) وفق ضوابط محددة.
أما بداية الشهور الشرعية: فالمرجع فيها إلى الجهات الشرعية كالمحكمة العليا.
فقول علماء الفلك إنَّ يوم الأربعاء هو الأول من شهر شوال: مبنيٌ على أنَّ الهيئات الشرعية لا تأخذ بالحساب بل بالرؤية، لذا فإنَّ تصريحاتهم وبياناتهم كانت توضِّح هذين المنهجين المختلفين، كتصريحات فلكيي (مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) و(المشروع الإسلامي لرصد الأهلَّة) والتي تنص على أنَّ: (الأربعاء 31 آب ''أغسطس'' أول أيام عيد الفطر المبارك حسب الرؤية، والثلاثاء 30 آب ''أغسطس'' للحسابات الفلكية).
فلا تعارض في بيانات الفلكيين؛ وإنما هما منهجان مختلفان، ولكل منهجٍ منهما أدواته ووسائله المختلفة.
المسألة الثانية: شهرٌ محلي أم عالمي؟
لأهل العلم في اتفاق البلدان أو اختلافها في بدايات الشهور القمرية ثلاثة أقوال:
1_ تحديد كل بلد لأشهره على حدة، بغضِّ النظر عن البلدان الأخرى.
2_ اتفاق كل مجموعة من البلدان المُتقاربة في بدايات الشهور.
3_ اتفاق جميع بلدان العالم واتحادها في دخول الشهور القمرية.
ويتناول أهل العلم هذه الأمور بالبحث تحت عناوين (البلدان التي تتفق في جزءٍ من الليل)، و(اختلاف المطالع)، ولكلِّ قول تفصيلاته وأدلته التي يطول الحديث عنها. وتنتهجُ غالبية البلدان الإسلامية - ومنها السعودية - منهج إثبات شهري رمضان وشوال في بلدها محليًا بغض النظر عن إثباتها في البلدان الأخرى، وقد تخضع تلك المسألة في بعض السنوات لاعتبارات معينة فتتفق بلدان مع بعضها، وقد تختلف.
والمهم في هذه المسألة:
أنَّ من يأخذ بقولٍ من أقوال أهل العلم السابقة ينبغي أن يقتصر عليه، ويلتزم به، لا أن يتنقَّل بين هذه الأقوال لدعم ما يذهب إليه:
فبالعودة إلى إثبات شهر شوال لعام 1432هـ، وما حصل فيه من تساؤل علماء الفلك عن دقة شهادة الشهود: ردَّ عليهم البعض بأنَّ هناك تناقضًا بين الفلكيين: ففريق يزعم أنَّ الهلال لا يُمكن أن يُرى، وفريقٌ يزعم أنَّ الهلال يمكن أن يُرى في عددٍ من البُلدان، وهذا _ برأيهم _ دليلٌ على تناقض الفلكيين، وعدم دقة حساباتهم، وبالتالي صحة شهادة الشهود.
والحقيقة: أنَّ هذا الأمر غير صحيح:
فبالرجوع إلى بيانات ترائي الهلال ليلة التَّحري يمكن ملاحظة أنَّ الهلال يمكن أن يُرى في بُلدانٍ مُعينة من العالم، بينما لا يُمكن أن يُرى في بلدانٍ أخرى، حسب البيانات التالية:
1_ رؤية الهلال مستحيلة في غالب مناطق (أمريكا الشمالية، وأوروبا، وآسيا) بسبب غروب القمر قبل غروب الشمس أو بسبب حصول الاقتران السطحي بعد غروب الشمس.
2_ رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب فقط في بعض مناطق (أمريكا اللاتينية، وجنوب إفريقيا).
3_ رؤية الهلال ممكنة باستخدام التلسكوب في بعض مناطق (أمريكا الجنوبية)، ومن الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة في حالة صفاء الغلاف الجوي التام والرصد من قبل راصد متمرس.
4_ رؤية الهلال ممكنة بالعين المجردة في (جنوب أمريكا الجنوبية).
5_ رؤية الهلال غير ممكنة بالعين المجردة أو بالتلسكوب في المنطقة الممتدة من (وسط أمريكا الشمالية، إلى معظم شمال ووسط إفريقيا، والشرق الأوسط، وأواسط آسيا وجنوبها) على الرغم من غروب القمر بعد غروب الشمس ومن حصول الاقتران السطحي قبل غروب الشمس، وذلك بسبب قلة إضاءة الهلال أو بسبب قربه من الأفق، وذلك كما هو موضح في الخريطة.
سبب اختلاف الرؤية بين البلدان
يعود اختلاف إمكانية رؤية الهلال بين بلدان العالم إلى عوامل فلكية بحتة، منها: طبيعة شكل الأرض، وكيفية دورانها، وميل محورها، وكيفية حركة القمر حول الأرض، وشروقه عليها، وغيرها، وهي أمور في غاية الأهمية والدقة، وليس هذا مجال بسطها.
وعليه: فإمكانية رؤيةُ الهلال في بلدٍ أو مكانٍ ما لا يستلزم إمكانية رؤيته في مكان آخر بإطلاق، وليسَ لأحد أن يؤكد إمكانية رؤية الهلال أو عدمها قياسًا على إمكانية رؤيته في بلدٍ آخر، إلا بمعرفة الاتفاق أو الاختلاف بين هذه البلدان في ذلك.
وأخيرا
فإنَّ العديد من الخلافات والأخطاء التي تحدث أثناء مناقشة موضوعات (الفلك والأهلَّة) يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها بدرجةٍ كبيرة بالتزامٍ منهجيةٍ واضحةٍ مُحددة في تناولها، لا تناقض فيها ولا اختلاف.
http://www.aleqt.com/2011/09/29/article_584939.html